كاد اللبنانيون يعتادون عدمَ وجود رئيس جمهورية. هم اعتادوا كلَّ شيء، وما عادوا يحرّكون ساكناً. لا ماء ولا كهرباء في بلد المياه والأنهار. لا طرقات ولا خدمات، وأسعار مدارس ومستشفيات خيالية، وإفادات تعليمية معيبة... ولا أحد يحرّك ساكناً. الفساد نخر عظم الوطن. المواد الغذائية الفاسدة أو المنتهية الصلاحية جعلت اللبنانيين عرضة لأمراض السرطان والضغط والسكري والقلب.

لا أحد يتحرك. السياسيون نهبوا البلاد والعباد والشواطئ والرمال. لا أحد يعترض. المذهبية أفسحت في المجال لخلايا إرهابية نائمة ستستيقظ عاجلاً أو آجلاً. لا بأس، اللبنانيون اعتادوا كل شيء. وإن حصلت الانتخابات غداً، فسيذهب اللبنانيون خانعين طائعين كقطيع غنم صوب صناديق الاقتراع لينتخبوا من ينهبهم.

مع ذلك، يظن اللبناني أن سياسة العالم تدور حول بلاد الأرز. لسبب لا يفهمه غير اللبناني، ثمة اعتقاد بأن كل ما يحصل في العالم مركزه لبنان. يفاقم في هذا الجهل، جهل معظم السياسيين الذين جيء بهم إلى السلطة لكل الأسباب إلا للكفاءة.

هكذا، بعد 99 يوماً من خلوّ لبنان من رئيس للجمهورية، سارت الأمور على نحو عادي. ساهم في ذلك أن تآلف الحكومة، خصوصاً بين السنة والشيعة، غطّى تماماً على النقص. كاد اللبنانيون يعتادون غيابَ رئيس الجمهورية.

كان يمكن هذا الأمر أن يمتد لأشهر طويلة، لا بل ولسنوات. لكن أمراً طرأ غيَّر كل الحسابات والمعادلة. إنها «داعش». لا مجال لمحاربتها، أو لأي تسوية في شأنها أو تشكيل أي جبهة لصدِّها من دون رئيس مسيحي. لا مجال أيضاً لترك منصب الرئاسة شاغراً في البلد العربي الوحيد الذي رئيسه مسيحي، فيما المسيحيون يهجّرون من كل المنطقة.

ماذا في المعلومات؟

اللقاء السعودي ــــ الإيراني في الرياض تطرق إلى الوضع اللبناني. لم يدخل نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى تفاصيل هذا الوضع مع مضيفيه السعوديين. خُصِّص الوقت لملفات كثيرة، في مقدمها غزة والإرهاب. لكن ثمة توافقاً بات معروفاً بين الجانبين على ضرورة تجنيب لبنان خضّات أمنية وتحصين الحكومة الحالية واستكمال الخطوات بانتخاب رئيس للجمهورية. التوافق ليس جديداً. بدأ منذ تعيين الحكومة الحالية ووضع الخطة الأمنية موضع التنفيذ.

الرياض مرتاحة لرئيس الحكومة تمام سلام. تعتبره الخيار الأفضل حالياً، وهي، بالتالي، لا تستعجل أبداً عودة الرئيس سعد الحريري إلى هذا المنصب.

أحد الدبلوماسيين السعوديين قال صراحة: «لا نريد خضّات حكومية، ومن الأفضل الإبقاء على الصديق تمام سلام لما يتمتع به من حكمة وصبر وخبرة». يساهم في ذلك أن الصقرَين السنيَّين في الحكومة، أي نهاد المشنوق وأشرف ريفي، يؤديان أدواراً سياسية وأمنية مع شركائهما في الحكومة تلقى ترحيباً من الجميع. بات المشنوق حديثاً دائماً في معظم دوائر القرار الحليفة والخصمة داخل لبنان وخارجه.

فرنسا والفاتيكان يضغطان بقوة لتسريع خطوات انتخاب رئيس للجمهورية. معظم الاتصالات الفرنسية الأخيرة مع واشنطن، والمتعلقة بإرسال أسلحة إلى الجيش اللبناني، لحظت شرط استكمال الخطوات السياسية بانتخاب رئيس للبنان قريباً. البعض يتحدث عن حصول ذلك مطلع الخريف.

لم يعد اسم الرئيس هو المشكلة. اللافت أن اسماء عدّة مطروحة تلقى قبولاً، وباتت تعتبر قادرة على قيادة المرحلة الحالية. مثلاً، كثير من التحفظات حول الجنرال ميشال عون قد تراجعت كثيراً. تطورات عرسال والمخاوف من استيقاظ خلايا نائمة تجعل الجميع قابلين ببحث احتمالات وتنازلات. ما بعد تطورات عرسال ليس كما قبلها. للعماد عون خبرة سياسية وعسكرية طويلة. لكن ثمة من لا يزال يسعى إلى إقناعه بأن يكون الناخب، لا الرئيس. لم تكن حركة رئيس اللقاء الوطني وليد جنبلاط بعيدة عن محاولة دفعه إلى تسهيل مهمة انتخاب رئيس. كثيرون دخلوا على خط عون أخيراً. هل تأتي المفاجأة من الجنرال نفسه؟ لا شيء مستبعد. لكن سيد الرابية يدرك أنه يؤدي حالياً أبرز أوراقه الإقليمية والدولية، وأنه بات مقصد الجميع. لا ضرورة للاستعجال بشيء. كل الاحتمالات مفتوحة. ثمة أسماء أخرى يجري تداولها، بعضها معروف، وبعضها الآخر ليس متداولاً. لا يزال عون الخيار الأول، لكن لا شيء مستبعد.

يعتقد كثيرون أن سوريا ضعفت إلى درجة لم تعد قادرة معها على أداء أي دور في قضية رئيس الجمهورية. لعل في الأمر بعض مغالاة. إذا لم تعد ناخباً أول، فهي قادرة على العرقلة عبر حلفائها. الرئيس بشار الأسد كان قد أبلغ كل من سأله عن الرئاسة اللبنانية، أن ما يقرره الحلفاء، وخصوصاً السيد حسن نصرالله، هو يوافق عليه سلفاً. هذا يفترض، وفق العارفين، أن حزب الله وإيران ينصحان كل من يشاورهما بهذا الشأن، بأنّ من المفيد الحديث مع دمشق. هذا مقصود تماماً لدفع دول غربية إلى إعادة فتح خطوط مع القيادة السورية.

ماذا يعني كل ذلك؟

يتجه العالم إلى تشكيل جبهة دولية ــــ إقليمية لمحاربة «داعش». ينبغي أن تضم الجبهة الإقليمية السنة والشيعة والمسيحين والدروز والأكراد والأقليات جميعاً. الجيش اللبناني مرشح لأداء دور مهم وخطير، بدأت نذره في عرسال، وقد تتطور أكثر. لا يمكن التفكير بجبهة لبنانية ضد «داعش» من دون رئيس مسيحي. هذا بات مطلباً دولياً ومحور تفاهمات إقليمية، تماماً كما باتت إيران وحزب الله ضروريين دولياً لمحاربة الإرهاب.

معروف أن لا رئيس في لبنان يكون مناهضاً للسعودية أو لإيران أو لسورية أو للولايات المتحدة. هذه هي الأطراف المؤثرة على انتخاب رئيس.

الآن، وقد بدأت عملية التقارب الدولي لضرب «داعش»، هل تتسارع خطوات انتخاب رئيس للبنان؟

ثمة من يقول: إذا رأيتم طائرات أميركية تقصف داعش في سوريا، فهذا يعني أن تنسيقاً قد حصل تحت الطاولات. حينها فقط تبدأ خطوات انتخاب رئيس لبناني. يبدو أن الأمر بات قريباً رغم كل الضجيج الإعلامي حول استبعاد الرئيس بشار الأسد من أي تنسيق.

أما إذا كان هدف تسريع الخطوات ضد «داعش» في سورية وتسليح الجيش اللبناني هو التضييق على نظام الأسد وإحراج حلفائه في لبنان، فهذه مغامرة غربية قد تضع لبنان بكامله في مهب الريح، وليس فقط رئاسة الجمهورية.