تكفي العودة إلى قايين وهابيل الذين ولدا شقيقين من آدم بعدما عرف زوجته التي لم تذكر النصوص اسمها . الأوّل رعى المواشي والأبقار قدّمها قرباناً للرب بينما حرث الثاني الأرض وأنبت زرعها وثمارها وقدّمها بدوره قرباناً للرب الذي نظر إلى هابيل وأشاح بنظره عن قايين . وعندما اشتعل قايين غيظاً وغيرةً من شقيقه هابيل قتله . وكانت المذبحة الأولى في النص القديم الذي كرّس الفكر الوثني في السلوك اليهودي، وامتدّ إلى المسيحية عندما تناول اليهود رمزهم ليصير الذبيحة التي بها اكتفى الرب والتي ربّما لم تعتق البشر من الإمعان في تقديم الذبائح للتكفير عن ذنوبهم . واستمرّ المسلمون أصحاب كلمة الله الثالثة في تقديم الذبائح تنقيباً عن القيم الكبرى، لكنّ أصحاب الوليمة السياسية والاقتصادية يحيكون بالدم والذبائح أرذل الثياب والمظاهر وأشرس الاستراتيجيات والصور عبر المجموعات الإسلامية المتنوعة ليظهروا الإسلام للعين العالمية وكأنّه صوت الوثنية المعاصر الذي يبعث في بلادنا من جديد باسم الدين الحنيف .

هذا التوجّه الفكري الغربي الغريب واضح في بسط وليمته الدموية المتجددة أمام عيون شعوب العالم الجائعة . إنه جاذب في إغراءاته، إذ جاء مشحوناً أو مبشراً بروائح الليبرالية والعدالة وفضائل الجمهورية والحرية الفردية في العالم والديمقراطية، لكنه يحصر أو يخفي الإرهاب والتخلف بالإسلام والمسلمين ويجعلهم مساحة تحريض يسهّلون عبرها سياساتهم في التحريض والإستعداء والإستقواء والإدّعاء بأنّ ثورات تنصبّ فوق الرقعة السمراء في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط بشكلٍ عام تطالب المسلمين بتحقيق ثوراتهم الكبرى بالقوة، تماماً كما حققت(؟) المسيحية ثورتها خلال 300 عام وبدءاً من عصور التنوير . يضع هذا التفكير الأمريكي بالتخصيص وهو دون فكر التجارب الغربية كما اعتدناها ونستهلك مقتنياتها ومظاهرها في موقع حضاري معاد للأفكار والحضارات الأخرى في العالم . وتأخذ الثقافة بعداً دينياً خطراً تبرز فيه أرضنا رقعاً مرتجفة ومتحيرة ومحشورة بالمسؤولين والمفكرين الذين كانوا يتسلون بلعبة السلطة ويحرقون أصابعهم وشعوبهم وتاريخهم بمصطلح الإرهاب المطّاط عنوان العصر كما يحرقون أنفسهم وسلطاتهم في اندفاعاتهم المفروضة والتي لا فرار منها في التعامل المعلن أو السرّي الطبيعية مع أمريكا وبلاد الغرب . نقول السرّي لأن "إسرائيل" هي السر . وأكثر من هذا كلّه يمسحون الدماء الطرية التي لا تعرف اليبس عن وجه فلسطين مذ كانت مجازر "إسرائيل" في فلسطين وبلاد العرب . لماذا؟

لأنّ "إسرائيل" تشغل، منذ 1917 مروراً بال1967 وفصل القدس والضفة وغزّة الذبيحة اليوم وجنوبي لبنان والجولان وسيناء وصولاً إلى العربدة العابثة ببلادنا وبقيم الأديان وفي مختلف الأرجاء والعواصم، معضلة التوتر الأساسية بين العرب والمسلمين من ناحية وبينهم وبين أمريكا والغرب من ناحية أخرى . بهذا المعنى، كان من الطبيعي أن تولّد الدماء تسهيلاً لدفع أبناء بعض المسلمين، وعن طريق استغلالهم وهندسة سياساتهم وتدريبهم وقهرهم واضطهادهم أواستفزازهم الفاقع في مقدّساتهم، للتجمّع أكثر في فرض "الشهادتين" وتعميمها وقد استغرقوا في نبذهم منذ سقوط الأندلس للاستغراق بسهولةٍ أكثر في البحث عن "الفلاح" بمعنى النصر بالسيف أو بالجلد وقطع الرؤوس والتفجير والقتل بلذّة ومناظر لا يمكن تبريرها بدأت تندرج تحت خانة "المسلمون الصهاينة" بعدما أدرج تحت الفكرة نفسها "المسيحيون الصهاينة" . كان الفلاح الدموي منسياً أو مؤجّلاً أو مستحيلاً وهو يتجدّد للمرّة الثانية في تاريخ الإسلام بهدف تشويهه والتخلّص من أعبائه الثقيلة في الغرب بالعين الغربية وكما يتلفّظ به لسان الغربيين بالطبع . يخرجونهم نحو تعزيز الجهاد والاستشهاد والحضّ على النصر والفلاح الذي تأسس كما يشيعون ظلماً في قول الله لكنه تأسس في المذبحة الأولى بين قايين وهابيل .

ما العمل؟ تسقط الحلول الأمنية التي تبدو قاصرة بعدما عصفت الرياح بالنار فتاهت الوجهة، وهذا ما يقرّ به الكثيرون في أوروبا وأمريكا والعالم بحيث يجب الذهاب في الأسباب العميقة "للإرهاب" . ويعقّد الغرب بجيوبه المنفوخة الفارغة أو التي لا تمتلئ، الحلول والمعالجات أمام الدول العربية التي تعاني "الإرهاب" . وتسقط الإجابات عن تساؤل العالم المزعوم لماذا يبغضوننا؟ أي عالم مرتبك، بالعجز كما بالمؤامرة، من الإبقاء على "إسرائيل" رصيداً مؤجّلاً ومخزوناً استراتيجياً، والإبقاء على بوصلته الحالية متلذذة بالخراب العربي والإسلامي، في الوقت الذي يسقط فيها المسلمون المتشددون نهائياً صفة التأجيل عن لغة الدم في الأرض في عشوائية تجعلك مقيماً في العهد القديم؟

نعم . الكلّ في دائرة متوسعة لا فرق فيها بين متشدّد وآخر، أو بين تكفيري وآخر وتنظيم وآخر وإخواني وآخر إلاّ بالموت يلبسان ثياباً جديدة صالحة للموت كما للحياة في العالم وفي البلاد العربية والإسلامية لا علاقة لها بالإسلام في جوهره وجواهره . فالوعد بالجنّة مسألة فائقة الدلالة والإيمانية بالنسبة للشباب المقاتل في تنظيمات المسلمين وهو ما قد يؤرّق الدول العظمى في انفلات غير محسوب أمام مسأله التعادل بين الموت الإستشهادي والفلاح . ألم يبلغ الفلاح معنى الموت الذي لا يدركه النضوب ممّا يعيد النظر بالإدارة الرقمية للحروب المعاصرة؟

لا حيلة للعلم في التخلص من عصر التراب، وحسابات الأرض غير حسابات الفضاء، والأمريكي الذي يلتهم "البيغ ماك" ويقاتل الشعوب ويحاول ترويضها من الفضاء، ومن خلف الشاشات والنصوص والحسابات الأمريكية لا تفضي سوى إلى العبثية والهزائم والخراب . وصورة الطفلة العزلاء التي تحمل قطعةً من الخبز المغمّسة بالصعتر والسمسم تتأمّل الطائرات الرقميّة "الإسرائيلية" (لا الورقيّة) تنصبّ بحممها فتؤسس لعصر الجحيم والنار تمثل في أذهان البشرية في غزّة كما في عواصم العرب، وتؤسس أحقاداً وكرهاً ينزرع في الأجنة والأرحام والمخيلات إلى ما شاء التاريخ . لا نتصوّر أنّ أجيالنا كانت تكره الأمريكيين، ولا مغالاة في القول بأنّ أقصى طموحات العديد من شبابنا كان تقليد ملامح الإنسان الرقمي الأمريكي والوصول إلى الجامعات الأمريكية . لكن المغالين في إبادة الشعوب يتصورون أنهم أبناء "أنكيدو" الجديد الذي خلقته الآلهة لحلّ مشكلة الحكّام أو "غلغامش" الحاكم البابلي الذي استبدّ بشعبه قبل 5آلاف عام . لقد شارك "أنكيدو" "غلغامش" وساواه في قوّته وبطشه وبعد قتال عنيف بينهما، ارتبطا بصداقة قويّة تحطّمت بموت "أنكيدو" المأساوي .

وراح "غلغامش" يفتّش عن أسرار الخلود مسكوناً برهبة

الموت . وبين حتميّة الموت واستحالة الخلود، تكرّ الأسئلة

التي تقلق الإنسانية في كلّ زمان ومكان وكلّها

تعجز عن مجابهة الموت .ترى من هو "أنكيدو" ومن هو "غلغامش"؟

تتعادل الأسماء وتتشابه في زراعة الموت لدى العابرين في زمن عابر تتعادل فيه الحياة بالموت لكنّ الوجه الآخر لكلّ موت هو الحياة والولادة .