فؤاد السنيورة ليس أياً من بعض نواب الشمال الذين غالباً ما يُضطر تيار “المستقبل” الى “ترقيع” مواقفهم المتفلّتة بوضعها في خانة “الاجتهاد الفردي”. فؤاد السنيورة يمثّل التيار في لبنان ببساطةٍ وما يقوله يُحسَب على بيت الوسط الذي يغيب رئيسُه الأعلى مجدداً لفترةٍ لا يعرفها أحد. هذه المرة، ومن قلب الأشرفية تحديداً، ربما قطع السنيورة الطريق على أيّ لقاءٍ كان يُعدُّ لجمع السيد حسن نصرالله والرئيس سعد الحريري في مرحلةٍ دقيقةٍ تحتاج الى مثل هذا اللقاء.

لم يفهم أحدٌ لمَ حمّل السنيورة نفسه موقفاً “ملتبساً” كان يعلم أنه سيفتح عليه نار أبناء المقاومة وحلفائها وحتى بعض المغرّدين خارج سرب هذا المحور من خلال تأويلاتٍ وتفسيراتٍ قد تبقى ضمن السياق أو قد تخرج عنه ولكنها في مجملها تصبّ في خانةٍ واحدة: رفض منطق المساواة بين حزب الله و”داعش” بأسلوبٍ مباشر أو غير مباشر.

حان دور السنيورة...

لم يهبط ما قاله السنيورة كالصاعقة على رؤوس جمهور حزب الله أو حتى أبناء الرابية، ليس لأن مضمونه “بيقطع” في سياقه السياسي أو في ظروفٍ تستلزم إخماداً لا إستثارةً، بل لأنها ليست المرة الأولى التي يخرج أحد أركان 14 آذار واضعاً –بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وضمن سياقٍ واضح أو خارجه- “داعش” في كفة ميزانٍ واحدة مع حزب الله أو حتى التيار الوطني الحرّ. ولكن هذه المرة ليس أيًّا كان. فبعد وزير العدل أشرف ريفي الذي اعتبر أن “داعش وحزب الله صورتان تشبهان بعضهما”، وبعد تأكيد النائب القواتي فادي كرم أن “التيار الوطني الحر وداعش وجهان لعملة واحدة”، حان دور رأس تيار المستقبل المقيم ليخرج من صرحٍ مسيحي مؤكداً أن “المجتمعين في لقاء سيدة الجبل أقرب اليه من الذي يرفع راية ولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية في طهران، او راية الخليفة الحاكم في الموصل والرقة”.

توزيع أدوار

الأمور واضحة بالنسبة الى 8 آذار وتحديداً حزب الله الذي التزم الصمت في المرة الفائتة تاركًا الردّ لبكّ المختارة. كلّ الأمور واضحة على ما تؤكد مصادر 8 آذار لـ”صدى البلد”، إذ “هناك توزيع أدوار جليٍّ بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية قائمٌ على تشبيه حزب الله والتيار الوطني بداعش بأساليب كلامية وسياقات مختلفة. فتيار المستقبل مثلاً لم يصدر عنه أي ردّ فعل على ما قاله النائب فادي كرم، وكذلك القواتيون لا يعلّقون على كلام المستقبل، وكأن هناك اتفاقاً ضمنياً على إشعال الأجواء في ظروفٍ لا تحتمل كلامًا من هذا النوع ولو كانت الغايات انتخابية على أبواب الانتخابات البرلمانية واطراد الحديث عن حلحلةٍ رئاسيّة. ليس من أجل غاياتٍ انتخابيّة نسعى الى تحقير الآخرين بتشبيههم بتنظيم إجرامي إرهابي يرفضه المسلمون أنفسهم”. وتشير المصادر الى أنه “بات واضحًا أن هناك نهجين داخل تيار المستقبل: نهج الحريري ونهج السنيورة، وكلاهما غير قادر على ضبط الآخر لأسبابٍ داخلية ولكن لا نعتقد أن الحريري يرضى عن مثل هذا الكلام وهو الذي يعي خطورة المرحلة ويحرص على إرساء نوع من التلاقي وهو ما فعله بزيارته الأخيرة المفاجئة”.

“المستقبل” يسوّغ...

ليست الأمور على هذا النحو بالنسبة الى تيار “المستقبل”، ففي نظره هي محاولةٌ أخرى لإخراج كلام السنيورة عن سياقه المحدّد من قبل أشخاصٍ يناسبهم زرع الفتنة. ويشدد عضو كتلة “المستقبل” محمد الحجار لـ”صدى البلد” على أن “تيار المستقبل وبالتوازي مع موقفه الرافض للإرهاب بشكل مطلق والداعي الى ضربه أينما كان، لا يغفل أهمية الذهاب الى منابع هذا الإرهاب ومسبّباته ومحفزاته وذرائعه، لنجد أن المسبّب الأول والأخير هو انغماس حزب الله في الميدان السوري”. ويؤكد الحجار أن “ما قاله السنيورة هو الكلام الذي يجب أن يقوله الجميع لجهة أن على كل طرف أن يتحمّل مسؤولياته إزاء ما تشهده المنطقة وارتداداته على الساحة اللبنانية”. ولكن هل التوقيت مناسب ليخرج السنيورة بموقفٍ بمماثل؟ يجيب الحجار: “من لا يفكر في شكل سليم يمكنه أن يفسّر هذا الطرح بالطريقة التي تتناسب مع مشروعه وخطابه التحريضي. السنيورة كان واضحاً عندما قال إن مشروع ولاية الفقيه لا يشبهه عندما يتجاوز حدوده السياسيّة ويمسّ سيادة لبنان ويجعل الكثيرين يقدّمون مصلحة هذا المشروع على المصلحة الوطنية”. ويردف: “هناك أسباب إن لم نبحث عنها لا يمكن أن نصل الى نتائج. نعم قلنا إن هذا الإرهاب مُدان بشكله وأسبابه وممارساته ولكن هذا لا يعني أبدًا أن ليست هناك أسباب وظروف تشجّع على هذا الإرهاب”.

عودة حرفية

العودة الى كلام السنيورة لا تفشّ غليل الناقمين. فماذا قال الرجل؟ النص بحرفيته: “أنا المسلم اللبناني والعروبي لا أجد أي قاسم مشترك ولا شيء يجمعني مع أولئك الطغاة المستبدين ولا مع الإرهابيين ولا مع أولئك الذين يتخذون من الإسلام شعارًا يرتكبون تحت لوائه جرائمهم البشعة ضد الإنسانية بدعوى احتكار معرفة الاسلام والإيمان في العراق والشام. وأنا أجد نفسي معكم أنتم المجتمعين اليوم هنا في الاشرفية في بيروت، الأقرب الى نهج تفكيري وإلى تفكير ونهج كثيرين مثلي في لبنان وخارج لبنان”. قبل أن يستتبع فكرته بجملةٍ بدت حاسمة في ما يتعلق برسالته: “ سأقولها صريحة وواضحة مرة ثانية، أنا أعتبر أنكم أنتم المجتمعين هنا وغيركم كثيرين أقرب الي، أكثر بكثير من الذي يرفع راية ولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية في طهران، او راية الخليفة الحاكم في الموصل والرقة، لأنكم أنتم تشبهون لبنان وتشبهون شعب لبنان وتاريخ لبنان بماضيه وحاضره ومستقبله وتعبرون عن حقيقة طموح اللبنانيين إلى مستقبل آمن وزاهر متلائم مع مصالحنا ومع حركة العالم من حولنا”.

إهانة للمسيحيين؟

تلك العودة النصيّة قد تُظهر بعض اللبس من باب اللعب على الكلام والأفكار ولكن ليس في السياق العام بالنسبة الى 8 آذار. “فالنيّة موجودة في الأساس ولو لم يكن ريفي قالها سابقاً لما تمّ التشكيك بكلام السنيورة اليوم، وأصلاً لا مجال للتشكيك لأن السياق والمضمون واضحان” تقول مصادر 8 آذار. وعلمت “صدى البلد” أن “بعض المقرّبين من الرابية قرأوها على طريقتهم بعدما وجدوا فيها إهانةً واضحة للمسيحيين من باب مجرّد التفكير في وضعهم في مقارنةٍ غير منصفةٍ ومنطقيةٍ مع جماعةٍ إرهابيةٍ تقتل المسلم قبل المسيحي، وهو ما يُحسَب على السنيورة على أنه خطأ لا زلة. خطأ مكلف هذه المرة لأن توقيته لا ينمّ عن وعي الناطق به”.

لم الآن؟

في المرة الأولى، يبدو أن كلام وليد جنبلاط اللاذع لم يجدِ نفعاً ولا وضعُه ما قيل ويُقال من هذا القبيل في خانة “الغباء والهرطقة السياسية” أتى ثماره، فالسنيورة قال ما قاله فاتحاً الأبواب أمام جملة تساؤلاتٍ لعلّ أوّل ما يقفز منها الى أذهان المراقبين: هل هو موقفٌ يتبناه تيار المستقبل برمّته؟ ولمَ سيرمي رئيسٌ مسؤولٌ مثل هذه الشرارة في توقيتٍ بهذه الحساسيّة فيما يُعمَل بصمتٍ بين عين التينة والمختارة على تقريب وجهات النظر بين نصرالله والحريري؟

ربما عاتبه...

إذاً، السنيورة قال ما قاله وأحدٌ لا يعرف ما دار بينه وبين الرئيس سعد الحريري عقب هذا الكلام هاتفياً. ربما قال له إنه أخطأ في التوقيت فيما الشبح الطائفي يتسلّل الى كلّ بيت، وربّما لم يعاتبه لأنه منحه ذريعة “اللالقاء” مع حزب الله من دون رضى سعودي لم يختمر بعد في انتظار اللقاء الإيراني-السعودي الذي قد يبدّل كلّ المعادلات ويضع حدًّا للعبة السياقات المجتزأة التي باتت ذريعة “المستقبل” الأقوى لكن غير الناجحة في ظروفٍ لا ترحم سياقاً ولا تحتمل تحريضًا مغلفاً.