هجرة المسيحيين من لبنان جرح نازف في تاريخ الوطن وهم من كانت لهم الحصة الكبرى في الهجرة من بلدهم وعلى مرّ السنين، فجاء ذاك "الربيع العربي" ليضيف الى القائمة هماً جديداً وأعباء جعلت من اللبناني غريباً في بلده ومن المسيحي لاجئاً في موطنه... وهنا السؤال الكبير الذي يطرح نفسه، فهل الأوضاع الأمنية المتردية والأعباء الاقتصادية التي يرزح تحتها لبنان جعلت الخارج وجهة المسيحيين الأولية؟

للتمسك بالارض

"ليس المسيحيون من يهاجرون بل اللبنانيون بشكل عام، والمسلمون يغادرون اليوم كما المسيحيون لا بل يمكننا القول إن هجرة المسيحيين باتت تتضاءل"، كلمات قالها رئيس الاتحاد الكاثوليكي للصحافة ورئيس جمعية لابورا الأب ​طوني خضرا​ عبر "النشرة" وتختصر الوضع القائم اليوم. ويشير الى أن "هجرة المسيحيين من الدول العربية وموجة الارهاب التكفيري لم تدفع بمسيحيي لبنان الى الرحيل"، داعياً الجميع الى "التمسك بالارض والوطن لأنه هويتنا الأساس". هذا الكلام جاء مطابقاً للإحصاءات الأخيرة التي أجراها المركز اللبناني للمعلومات والتي تشير الى عدد المسيحيين الذي غادروا لبنان بين عامي 1992 و2007 والتي بلغت 39.40% وهي أقل بكثير من المسلمين التي بلغت 60.60%، أما بين عامي 2008 و2011 فعدد المسيحيين 41% أما المسلمين 59%. وهنا تفصل لابورا بالارقام: في 1985 وحتى 2007 غادر لبنان 254.062 شخصا وهذا العدد تراجع بين عامي 2008 و2011 لينزل الى 82.000 شخص.

هجرة سياسية أم إقتصادية!

ولهذه الهجرة تاريخ وأسباب متعددة، فبرأي الأب خضرا فان "الهجرة سياسية بالدرجة الأولى يضاف اليها العامل الإقتصادي"، ويضيف: "الزعماء في هذا البلد لا يرحمون الناس يدفعونهم بخطاباتهم أولا وبالعامل الاقتصادي المتردي الى الرحيل". أما البرفسور في العلوم السياسية في جامعة اللويزة والباحث في المركز اللبناني للهجرة ​يوجين دبوس​ فيشير الى أن "هذه الهجرة اقتصادية فالشباب المسيحي يسعى الى إكتساب العلم والمعرفة ومن ثم السفر بسبب عدم وجود فرص عمل تدفعم الى البقاء في بلدهم". ويشرح تاريخ هجرة المسيحيين التي بدأت منذ عام 1880 لأسباب إقتصادية وهرباً من الخدمة الاجبارية التي فرضها العثمانيون آنذاك وكانت وجهتهم أوروبا أما من العام 1960 وحتى 1970 كانت عيون مسيحيي لبنان شاخصة على الخليج المزدهر حديثاً ولأسباب إقتصادية"، ويتابع: "في العام 2001 عاد معظم هؤلاء بعد إنتهاء الحرب اللبنانية ولكنهم ما لبثوا أن أصيبوا بخيبة أمل دفعتهم الى الرحيل مجددا"، ويرى دبوس أن "العدوان الاسرائيلي على لبنان ونقص فرص العمل أثّرت على المسيحيين ودفعتهم الى الرحيل مجدداً".

مواطنون يهاجرون ...

ينو هواريان، مواطن لبناني يقول: "هاجرت وعدت الى لبنان. لا أرى أفضل من هذا البلد، صحيح أن مشاكله كثيرة ولكنه أفضل من غيره بكثير. المشاكل موجودة في جميع البلدان وهي على الجميع وليس على فئات من المجتمع دون غيرها. المسألة سياسية وليست إقتصادية فلو عمل اللبنانيون ما يعملونه في الخارج لما ترك أي شخص بلا عمل أو مدخول". أما كريستين فتقول: "لا أفكر في الهجرة لأن هذا هو بلدي". وتقول كاتيا: "لا أحب الهجرة. هنا ولدت وهنا سأموت".

الفساد دافع للرحيل

ورغم تضارب الآراء، الا أن ما لا يمكن أن نتغاضى عنه هو أن الفساد عامل أساس يدفع اللبنانيين عامة والمسلمين بشكل خاص الى الرحيل. وفي هذا الإطار يلفت دبوس الى أن "الشباب المسيحي يدرك أن "الواسطة" تلعب دورا كبيراً في لبنان فيفضّل الهروب من هذا الوضع"، ويشير الى أن "الهجرة فرضت عليهم لأنهم لاحظوا أن المؤسسات الدينية المسيحية لا تساهم في مكافحة آفة الفساد، فتوجّهوا الى بلدان تقدر فيها الخبرات". وفي هذا السياق يشدد الاب خضرا على تثبيت الشباب المسيحي في بلاده عبر وقف الفساد في الدولة والمحاصصة السياسية والطائفية في الوظائف"، ويضيف: "من خلال التدريب والوظائف التي ساعدنا على تأمينها للعديد من الناس وعن طريق قدراتهم الذاتية تأكّد هؤلاء بأن مكافحة الفساد ضرورة، والبقاء في الوطن واجب والمقدرة على دخول سوق العمل والمنافسة دون الحاجة الى اللجوء الى أي زعيم سياسي من أجل "الواسطة" واقع لا يمكن إنكاره!"

الحوافز...

يؤكد الأب خضرا أن "الوطن لنا، ولن نتركه لأحد لنا"، ويشدد على "ضرورة تحفيز الشباب اللبناني على البقاء فيه رغم كل ما يتعرض له". هذا ما يلفت اليه دبوس أيضاً، مؤكداً على "ضرورة محاربة الفساد أولاً لنعاود زرع الأمل في نفوس هؤلاء الشبان ويكتشفوا شيئا فشيئا بأن الكفاءة هي التي ستكون المعيار لتقييم الشخص في سوق العمل لا الواسطة!"

بين مستجيب لفكرة ترك الوطن ورافض لها تبقى البيئة الحاضنة لها سبب أساس لتفاعلها عند اللبنانيين الذين يعيشون ومنذ زمن الهجرة للخارج بين الحلم والحقيقة.

تصوير تلفزيوني علاء كنعان