لم يكن «داعش» مقنعاً بتبريره السبب في عدم مقاتلة «إسرائيل» بقوله: «إن القرآن الكريم أمر بقتال العدو القريب، وأنّ القدس لن تتحرّر قبل القضاء على الرافضة» أي الشيعة. ولم تكن إسرائيل كذلك في عدم استنفارها وتأهبها الفوري لتنظيم إرهابي على حدودها.

أكثر من ذلك، استقبلت «إسرائيل» جرحى هذا التنظيم المصابين جرّاء المعارك على الأرض السورية في مستشفياتها وعلى أراضيها. وفي حرب غزة، خرج داعش يقول إنه ليس بصدد مقاتلة «إسرائيل» في المدى المنظور، هذا كله إن دلّ على شيء فهو أن كلاً من الكيانين لا يريد قتال الآخر أو غير جاد فيه.

دلائل ومؤشرات عدة ـ منها ما هو استخباراتي أمني موثق ـ أكدت أن كبار صقور الدولة العبرية كانوا قد ساهموا منذ عقود في تأسيس حركات تكفيرية أصولية متطرفة تدعو إلى الجهاد وتروّج لأعمالها من خلاله، فتُستخدم هذه المجموعات من قبل «إسرائيل» وحلفائها لتنفيذ عمليات ومشاريع خاصة، تتعدى منطق القانون الدولي وقيوده خدمة لمصالح تاريخية أو مستجدة لتلك الدول.

لم يتخذ أسامة بن لادن يوماً فلسطين أرضاً للجهاد، وكذلك كان كلام الظواهري عرضياً عنها حتى في أحلك أيام الاعتداءات «الإسرائيلية» على فلسطين.

يؤكد هذا كله كلام العميل الأميركي إدوارد سنودن الذي كشف عن تعاون استخباراتي بين أجهزة استخبارات غربية أبرزها بريطانيا و«إسرائيل» لتأسيس تنظيم دولة الخلافة، أي داعش اليوم، والهدف وفق سنودن هو حماية أمن «إسرائيل» من خلال استقطاب إرهابيي العالم إلى داعش وتكفير الآخر ومحاولة إلغائه وتشويه الإسلام وفتح حروب ونزاعات مستمرة، وهذه العملية هي خطة بريطانية قديمة تعرف بـ «عش الدبابير». كذلك، أكد سنودن أن «البغدادي تلقى تدريبات على أيدي الموساد لمدة عام وتعلم فن الخطابة وعلم اللاهوت».

حتى اليوم ـ وليس لعدم إحراج الحلفاء العرب ـ لم تنضم «إسرائيل» إلى التحالف الدولي ولم تعلن مسانداتها له، وهو الذي تواصل الولايات المتحدة تشكيله ضد داعش على رغم أن «إسرائيل» أعلنت أنها «قد تواجه داعش، إذا ما هاجم الأخير الأردن من دون تحديد كيفية المواجهة و ماهيتها».

الكثير من الوقائع، ومعادلة عدو عدوي صديقي في المقدمة، تقول إن إرباك سورية وإيران وحزب الله وقطع تواصلهم الجغرافي، مهمة «إسرائيل» الأهم ينفذها داعش، فهل يحدث ذلك صدفة؟ عدا عن أن عمر الفاصل الزمني عن أي حرب ستتعرض لها «إسرائيل» من الشرق والشمال صار هو عمر داعش، فأي مصلحة لـ«إسرائيل» بنجاح الحلف بتحقيق أهدافه؟

أول هموم مؤسسي «إسرائيل» كان تحقيق انشغال العرب عنها، وعن فكرة استرجاع فلسطين أو مقاومتها، وأول هموم قادتها اليوم كان خلق عدو بديل منها وكانت إيران الهدف، خصوصاً أن اكثر ما يزعجهم ويقلقهم هو نمو إيران وتحركاتها ونشاطها النووي، وعليه فقد استخدمت «إسرائيل» لعقود الخطر الإيراني كحجة للابتزاز الدولي واستثارة واستنهاض الهمم نحو حفظ أمنها القومي، وبمثل ما نجحت «إسرائيل» في جعل إيران مصدر اهتمام عدائي في الغرب، فشلت في جعلها عدو العرب البديل منها علناً، فيتعاملون معها كحليف وينسون فلسطين، على رغم كل تاريخ العلاقات السرية بين تل أبيب وكثير من الحكام العرب.

نجحت «إسرائيل» في جعل الغرب يقوم بخطوات عدائية لإرباك إيران وإضعافها، فصنفت إيران أميركياً وغربياً داعمة للإرهاب وخارجة عن القانون الدولي، عدا عن قطع التواصل بين أي مسؤول أميركي و إيراني منذ سنوات بعيدة، والحصار الاقتصادي القاتل من كل الدول الغربية، لكن النجاح صار مهدداً بالتلاشي مع مفاوضات تتجه نحو تفاهمات كبرى من جهة، والعدو البديل الذي يستقطب العرب نحوه بدلاً منها لم يتبلور بصورة إيران على رغم كل التشنج الذي يخيم على العلاقات.

عملت «إسرائيل» جيداً على تغذية هذا التباعد الأميركي ـ الإيراني لمعرفتها بأن أي اجتماع مباشر سينعكس إيجاباً على ملفات عدة في المنطقة، ولمعرفتها أن أي اجتماع قد يؤسس لعلاقة طويلة وربما طبيعية تمس بـ«إسرائيل» وتحجم دورها إقليمياً.

يعرف قادة «إسرائيل» أن هذه الإنجازات التي ناموا على حريرها آيلة إلى الزوال وأن المسار العكسي في العلاقات الغربية ـ الإيرانية قد بدأ وأن الوقت فقط سيتكفل بتظهير علاقة إيرانية ـ أميركية تتسم بالإيجابية والتعاون في كثير من الملفات.

الخلاصة التي يراها «الإسرائيليون» اليوم هي أن داعش حل مشكلة وصنع أخرى فقد نجح ظهور داعش بتحقيق هدف البديل العدائي بين العرب الذي ينسيهم فلسطين ويستقطبهم بدلاً من «إسرائيل»، لكن هذا الظهور سرع مفاعيل التفاهمات الأميركية الغربية مع إيران كحليف ضروري للحرب على داعش من العراق إلى لبنان مروراً بسورية.

تخشى «إسرائيل» ألا تطول فرحتها وأن تكون قد حفرت حفرة ووقعت فيها، فالمعلومات الاستخباراتية تشير إلى أن مستوى التواصل بين الأميركيين والإيرانيين من جهة والأميركيين والسوريين من جهة أخرى يجري بسرعة وسرية، وإن لم يصل إلى التحالف ضد داعش ولا إلى التعاون فهو بالتأكيد سيصل لا محالة إلى التنسيق وتعميق التفاهمات بينهم، من أجل احتواء الظاهرة بحدها الأدنى، إذا لم تكن نيات الغرب الحقيقية القضاء عليها على ما يبدو حتى الساعة.

تواصل في الملف النووي والتواصل لمكافحة الإرهاب يقعان في القاموس الأميركي تحت بند التفاهمات الاستراتيجية، وعليه لا تستبعد مصادر دبلوماسية غربية أن يكون استبعاد إيران من طاولة جدة، قد جاء نتيجة ضغوطات «إسرائيلية» مخافة بناء جسر تواصل أعمق بين واشنطن وطهران، يضع «إسرائيل» في عنق الزجاجة.