لم تبدّد الرحلة الخاصة التي قضاها الرئيس بري في الجنوب الايطالي تلك الصورة القاتمة التي تحدث عنها قبل سفره في توصيف الوضع اللبناني القائم، فعاد بعد أسبوع ليجدد السؤال عن الجدوى من التمديد للمجلس النيابي الذي بات مشلولاً بفعل مقاطعة الجلسات التشريعية على انواعها من دون اي مبرر سياسي او دستوري.

حاول الرئيس بري، بحسب مقربين منه، ان يسرق بضعة أيام بعيداً عن السياسة، قاصداً أحد شواطئ ايطاليا لكسب شيء من أشعة الشمس التي لا يستطيع التمتع بها على الشواطئ اللبنانية للأسباب الأمنية المعروفة.

لم يجتمع في هذه الرحلة الخاصة بأي من السياسيين اللبنانيين او غير اللبنانيين، بل انه لم يلتق هناك اي شخص له صلة بالشأن العام.. ومع ذلك بقي مشدوداً للأزمة التي تعصف بلبنان والمنطقة رغم انبهاره مما شاهده في الاماكن التي زارها.

يقول الرئيس بري بعد العودة، على حدّ قول المقربين، ان لا شيء تبدّل على صعيد الأزمة، وان الامور المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي أسيرة «بلوك» سياسي ناجم عن استمرار المواقف كما هي، لا سيما من قبل المرشحين المارونيين الاساسيين العماد عون والدكتور جعجع، فالأول لم يبدل او يعدل نظرته الى الانتخابات الرئاسية، والثاني وان اظهر انه فتح ثغرة في جدار الاستحقاق ربط ذلك بشرط موافقته على المرشح الثالث.

اما العوامل الخارجية المؤثرة في هذا الاستحقاق فهي على حالها ايضا، لا سيما في ظل انهماك اطرافها بالتطورات الخطرة المتسارعة في المنطقة، وسعيها الى رسم سيناريوهات حولها.

ولا يبدو الرئيس بري متفائلاً يضيف المقرّبون في حصول متغيرات ايجابية قريبا على صعيد حل رموز عقدة الانتخابات الرئاسية، وهذا يقضي بطرح السؤال، هل نبقى على هذا المنوال من الجمود والتردي؟

ويتبعه السؤال الاخر حول استحقاق الانتخابات النيابية ومصيرها، ولماذا الذهاب الى التمديد لمجلس معطل ومشلول في ظل حالة استعصاء سياسي كامل؟

ويفضّل في معرض كلامه عن الازمة السياسية المستعصية الاّ يكشف الكثير من المستور حول واقع المؤسسات وعملها، لكنه لا يخفي في الوقت نفسه ان بعض ما يحصل لا تحتمله الصدور مهما اتسعت.

وعشية حديث اوساط 14 آذار او بعض منهم عن فتح بحث جدي حول مسألة عمل المجلس التشريعي يسرد بري بحسب المقربين تفاصيل محطات مماثلة ثلاث لم يتوقف عمل المجلس التشريعي فيها رغم غياب رئيس الجمهورية واحياناً الرئيس والحكومة معاً.

ففي العام 1945 واثناء خضوع رئيس الجمهورية انذاك للعلاج في حيفا بقيت الحكومة تجتمع برئاسة رئيسها وتأخذ القرارات، رغم انه قبل الطائف كانت مثل هذه الاجتماعات في غياب الرئيس هي عبارة عن مجلس وزاري وليس مجلس وزراء.. ومع ذلك كانت الحكومة تأخذ القرارات من دون عوائق. اما المجلس النيابي فبقي يجتمع ويشرع بشكل عادي ومن دون اي اشكال اواعتراض.

اما المحطة الثانية، يضيف الرئيس بري، فهي ايضا قبل الطائف خلال فترة ما سمّي بالحكومتين: حكومة العماد عون التي استقال الوزراء المسلمون الثلاثة منها، وحكومة الرئيس الحص التي كانت قائمة في تلك الفترة. وفي ظل الشغور الرئاسي كانت القرارات تؤخذ في الحكومتين بالنصف. اما المجلس النيابي فبقي وقتها ايضا يعمل ويجتمع ويشرّع الاّ في الايام والاوقات التي كانت الاوضاع الأمنية تحول دون ذلك.

المحطة الثالثة كانت بعد الطائف وهي خلال حكومة الرئيس السنيورة المبتورة التي استقال منها الوزراء الشيعة زائداً وزيراً مسيحياً. يومها اعتمدت هذه الحكومة غير الميثاقية التصويت بثلثي اعضائها وليس بكامل العدد.

وفي تلك الفترة يقول المقربون من بري لم يكن هناك اي اعتراض على حق المجلس في الاجتماع والتشريع، لا بل ان الرئيس السنيورة طلب فتح دورة استثنائية للمجلس وارسل ثلاثة مشاريع موازنات لدرسها وإقرارها في المجلس، هذا عدا عن مشاريع القوانين التي كان يرسلها الى المجلس لدرسها واقرارها ايضا. كل ذلك كان يجري في ظل الشغور الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود وبمشاركة القوى التي تعترض اليوم على حق المجلس في التشريع.

ويذكر الرئيس بري ايضا بان اتفاق الطائف قد اقر في مجلس النواب في ظل غياب رئيس الجمهورية والحكومة معا، وهذا يؤكد حق المجلس في العمل والتشريع في اي وقت، فهو سيد نفسه وهو ام المؤسسات، ومن غير المعقول ان نحرمه هذا الحق او نعيق عمله بحجة الشغور الرئاسي او بذرائع اخرى.

اما على صعيد الحكومة فيشير المقربون الى ان بري يعتبر انها كبلت نفسها بشكل كبير عندما قبل الرئيس سلام ربط صدور القرارات بتوقيع كل الوزراء، مشيرا الى ان السوابق لم يجر فيها اعتماد هذا العدد او هذه النسبة، ويشير الى ان كان له رأي في هذا الموضوع شرحه لسلام، وهو اعتماد التصويت على القرارات كمعيار بمعنى ان هناك حاجة للنصف زائداً واحداً للقرارات العادية والثلثين لتلك التي نص عليها الدستور.

يومها قال بري لسلام: اريد ان اكلمك كمحام وليس كرئيس للمجلس لتطبق ما يحصل في مجلس الوزراء ولتوقع انت على المرسوم باسم المجلس بعد التصويت بالنصف زائداً واحداً او بالثلثين وبعد تصديق محضر الجلسة ثم توقع مرة ثانية بصفتك رئيسا للحكومة الى جانب الوزير المختص، وهكذا تكون قد طبقت الاصول.

ويشير رئيس المجلس الى ان سلام ابدى تفهما وميلا الى هذا التفسير، لكنه لم يتمكن لاحقا من تطبيقه فذهب الى اعتماد صيغة توقيع الوزراء.

ويلمح الى ضغوط ربما يكون مارسها الرئيس السنيورة لاسباب تتعلق بمنظار واعتبارات سياسية وشخصية، مع العلم انه طبق غيرها اثناء رئاسته للحكومة المبتورة ولم يعتمد الاجماع في حكومة ناقصة اصلا وغير ميثاقية لوجود طائفة خارجها.

هذا المشهد السياسي المتأزم الى حدود الاستعصاء، وهذا الوضع الذي يتحكم بمؤسسات الدولة الى حدود الشلل الا يستلزمان احداث صدمة ايجابية، ربما عن طريق اجراء الانتخابات النيابية وضخ دم جديد في عروق المجلس؟

يقول الرئيس بري يضيف المقربون منه ان الوضع ليس مثاليا لاجراء الانتخابات النيابية وانا ادرك ذلك جيدا، لكن هذا لا يعني عدم امكانية تحقيق ذلك، ولا يعني ايضا الذهاب الى خيار التمديد في ظل واقع بات يتحكم باداء المجلس ويحاصره بشلل قاتل.

قد تكون الانتخابات النيابية منطلقا لاعادة تشكيل الدولة كما حصل في العراق بعد الانتخابات وما جرى بعدها... ففي العراق اختار الاكراد شخصية معتدلة لرئاسة الجمهورية، وسمى السنة ايضا معتدلا لرئاسة المجلس النيابي، وهذا ما جعل استمرار بقاء المالكي غير ممكن، وسهل استبداله برئيس الحكومة الجديد بعد الدعوة التي اطلقها السيد السيستاني والمباركة الدولية والاقليمية لهذه التسمية.