مشهد دراميّ هائل ما نتابعه خلال هذه الأيام، ليس بعيداً عن كلّ ما كنّا نقوله منذ اللحظة الأولى للعدوان على سورية، حيث بيّنا أنّ هناك عدواناً تقوده الولايات المتحدة بأدوات محلية وإقليمية، وقلنا بأنّ هذه الأدوات تلقت أوامر غرفة عمليات أميركية، من أردوغان إلى عربان الخليج وصولاً إلى أدوات داخلية كان الإخوان المسلمون رافعتها الأساسية، إضافة إلى بعض الأسماء التي دخلت على المشهد، أو صعدت عربة الأميركي ظنّاً منها أنها ستنال من غنيمة إسقاط «النظام» في سورية!!..

لقد نجحت الولايات المتحدة في استعمال هؤلاء جيّداً، غير أنّ حساباتهم الذاتية المشوّهة والمشبوهة اصطدمت بجدار الصمود السوري، الأمر الذي دفع المشهد كي يذهب صعوداً، باتجاه فضح هذه الأدوات وهزيمتها، وسحبها إلى مواقع تليق بها جيّداً، حيث وصفنا هذه المواقع منذ اللحظة الأولى أيضاً، بأنّها مزبلة التاريخ.

البعض ظنّ في حينها أنّنا نقول شعراً، أو أنّنا نقول كلاماً لرفع المعنويات، في حين أنّنا قرأنا التاريخ في شكل جيّد، وقرؤوا التاريخ في شكل مغلوط، أو ربما لم يطلعوا عليه، لأنهم لم يكونوا جزءاً منه أصلاً.

ما دفعنا لكتابة هذا الكلام المؤجل جملة مواقف كانت واضحة خلال الأيام القليلة الماضية، حيث خرج علينا وزير خارجية الكويت عقب اجتماع مجلس التعاون الخليجي أخيراً، كي يقول: بأنّ دول الخليج تنتظر ما هو مطلوب منها، وهي إشارة هامة جداً إلى الإدارة الأميركية، حيث كان فصل «داعش» هو العنوان الرئيسي الذي أخذ الجزء الأكبر من مشهد المواجهة على مستوى المنطقة، إذن… مجلس التعاون من جديد تحت طلب وإشارة الإدارة الأميركية.

كلام وزير خارجية الكويت هذا يؤكد أنّ مجلس التعاون لا يمتلك رؤية لجهة الحاصل، وهذا يعني أنّه لم يكن يمتلك رؤية واضحة لما كان يحصل منذ سنوات، خصوصاً لجهة ما سمي بالـ «ربيع العربي»، باعتبار أنّ المجلس كان أداة استعمال، وهو ما يصرّ عليه وزير خارجية الكويت، كون كلامه ذا دلالة كبيرة على أنّ المجلس مستعد لتعليمات وتوجيهات الإدارة الأميركية لجهة فصل «داعش»، وهو بذلك يفتح باب الخيارات المطلقة لتعليمات وتوجيهات تلك الإدارة.

«كيري» لم يتردّد في إعطاء هذه التعليمات، التعليمات التي تذهب باتجاه «تحالف» جديد قديم، تقوده الإدارة الأميركية في مواجهة «داعش»، وعلى مجلس التعاون أن يكون حاضراً لتمويل هذا «التحالف»، والمجلس جاهز فعلاً، وهو الدور الذي لم يتغيّر أبداً، وهذا يعني أنّ هذا المجلس الذي استعمل أداة واضحة في سياق العدوان على سورية والعالم العربي، يعود من جديد كي يُستعمل في مشروع أميركي جديد.

الأداة الأخرى التي كنّا نركّز عليها هم «الأخوان المسلمون»، وهم الذين صُدّروا وسوّقوا كي يكونوا في واجهة المشهد، على أنّهم يمثلون خلاص الأمة، وهم الذين سيأتون لها بربيعها وبحريتها وبديمقراطيتها، ودُفعوا بدعم أميركي ومال عربي كي يملأوا مشهد العالم العربي، من ليبيا إلى تونس إلى مصر مروراً في سورية، ونموذجهم الرئيسي الخليفة العثماني الجديد أردوغان تركيا!.

لم يكن التنسيق الإخواني فقط مع المال والنفط العربي أو مع التعليمات والتوجيهات الأميركية، وإنما تجاوز ذلك باتجاه كيان الاحتلال الصهيوني، الكيان الذي نسّق معهم بطريقتين اثنتين، إما من خلال وسيط عربي أو أميركي، أو من خلال تواصل واتصالات مباشرة لم تعد خافية على كثيرين، حيث استطاع هذا التنسيق أن يعيد إنتاج خريطة جديدة افتراضية لإعادة إنتاج العالم العربي والمنطقة، والتركيز على دول مذهبية دينية مترامية الأطراف، تملأ الفراغ الذي أحدثه سقوط «الدولة الوطنية»، في كل من تونس وليبيا ومصر، وسورية التي كان معوّلاً عليها كثيراً.

طبيعة المواجهة والعدوان الذي شنته الإدارة الأميركية لم يكن ماضياً بالطريقة التي تطلع لها قادة العدوان أنفسهم، فقد كانت استراتيجية مواجهة العدوان أقدر على تفتيت أدوات العدوان وتذريرها وإلحاق الهزيمة بها، حيث بدت شظايا هذه الهزائم قادرة على شرذمة تلك الأدوات وفضحها وتظهيرها على حقيقتها.

«الإخوان المسلمون» أداة الاستعمال الرئيسية في مصر صارت من التاريخ، كذلك هناك انزياح هام في طبيعة المشهد السياسي التونسي على حساب «الإخوان المسلمين»، كما أنّ الصعود الكبير في طبيعة المشهد والهزائم المتلاحقة دفعت كلها إلى فضّ العلاقة بين المال العربي وبين هذه الجماعة، فالسعودية إلى جانبها منظومة الخليج أعلنت أن «الإخوان» و«داعش» على حدّ سواء، فهم جهات إرهابية، غير أنّ «قطر» التي مانعت قليلاً لجهة هذا المعنى، أو هذا الموقف، ظنّاً منها أنّها سوف تتابع في استعمال الجماعة كي تضمن إعادة إنتاج موقعها الإقليمي، ها هي تنزاح أخيراً كي تقول كلمتها بالـ «أخوان»، وتعتبر بعض قياداتهم أشخاصاً غير مرغوب بهم على أراضيها، وهو تعبير هام عن الهزيمة التي منيّ بها «الإخوان» خلال هذه المواجهة، وتعبير أكثر وضوحاً على أنهم لم يكونوا سوى أداة استعمال رخيصة!.

خلاصة المشهد الأخير لمواجهة عمرها أكثر من أربع سنوات، أنّ «حمد» الأب ووزير خارجيته «حمد» الأصغر فقدا صلاحية العمالة والخيانة فأحيلا على التقاعد بفعل نفاذ الصلاحية، وأنّ أردوغان العثماني يحاول تبييض صورته من خلال وزير خارجيته الذي أضحى رئيساً للحكومة، وهو بالتالي ينزاح رويداً رويداً من المشهد، وينكفئ مشروعهم الإقليمي إلى مشروع داخلي لتأمين نصاب استحقاق انتخابي، والعربان يموّلون حرباً جديدة على «حلفائهم» القدامى «الداعشيين»، للخلاص منهم كونهم لم يستطيعوا أن يأتوا بالـ «ربيع العربي»، و«الإخوان المسلمون» التائهون على أبواب عواصم النفط العربي، يبحثون عمّن «يرشدهم» نحو بوابة العودة إلى زوايا مظلمة يبيتون بها قرناً جديداً من الزمن!.