من يُتابع الأخبار الواردة من سوريا في الأيام القليلة الماضية، يُلاحظ إحتداماً متزايداً للمعارك على غير جبهة، علماً أنّ حرب سوريا تتميّز عن كثير من الحروب الأخرى، بأنّها حرب مفتوحة لا تقطعها فترات هدنة أو توقّف للعمليّات القتالية، ما يعكس حجم التمويل الضخم الذي تتلقاه الأطراف المتقاتلة لتغطية نفقات المعارك، وحجم الدعم اللوجستي بالعديد والعتاد أيضاً. ويُمكن الحديث عن معارك كرّ وفرّ في أكثر من جبهة، وعن تقدّم للجيش السوري في مواقع عدّة خاصة في حماة، في مقابل تقدّم للمعارضة السورية في القنيطرة على الرغم من الضربة القاسية التي تعرّضت لها بمقتل أحد قادتها هناك. كما يُمكن تسجيل عودة المعارك إلى مناطق كانت هادئة نسبياً، إن في قلب دمشق (ولو لفترة زمنيّة محدودة) أو في ريفها، وكذلك إلى مناطق واسعة من القلمون. وفي خضم تصاعد المعارك والإغتيالات في سوريا، جاءت تأكيدات مسؤولين كبار في "حزب الله" بإستمرار مهمّة الحزب في سوريا، لتُسقط كل الإشاعات والأقاويل التي تحدّثت في الأسابيع القيلة الماضية عن قرب الإنسحاب من سوريا.

لكن بقاء مقاتلي "حزب الله" في سوريا، والذي ينقسم إلى أهداف ثلاثة رئيسة تتمثّل في دعم الجيش السوري في مواقع مُحدّدة، وفي تدريب وإعداد "قوات الدفاع الوطني" السوري والتي هي عبارة عن وحدات قتالية تتكوّن من مدنيّين يساعدون الجيش النظامي، وفي منع تسلّل المقاتلين المعارضين من سوريا إلى الداخل اللبناني، ليس من دون ثمن. فالضريبة البشريّة التي دفعها "الحزب" صارت كبيرة، وأخبار نعي الحزب لـ"شهداء الواجب الجهادي" باتت خبراً دورياً عادياً. وعلى الرغم من عدم وجود أيّ تحديد دقيق ورسمي من قبل "حزب الله" لعدد مقاتليه الذين سقطوا في سوريا منذ إنخراطه التصاعدي في المعارك هناك، فإنّ قيام الحزب بنعي مقاتليه ببيانات تُنشر علناً، سمح لبعض المتابعين المستقلّين باحصاء سقوط ما لا يقلّ عن 440 مُقاتلاً حتى تاريخه، علماً أنّ "الحزب" لا ينعي أيّ مقاتل ما لم يتمّ تسليم جثّته إلى ذويه، ما يعني أنّ الرقم هو أعلى من ذلك نتيجة وجود بعض جثامين المقاتلين بأيدي المعارضة السورية. أكثر من ذلك، إنّ مواقع المعارضة السورية تنشر لوائح بالأسماء والصور لأكثر من ألف مقاتل تقول إنّهم من "حزب الله" وسقطوا خلال المعارك في سوريا، لكن تضمّن هذه اللوائح لصور مكرّرة للشخص نفسه، وصوراً لعدد من المقاتلين غير اللبنانيّين، أفقدها مصداقيتها.

وفي كل الأحوال، وبغض النظر عن مدى دقّة وصحّة الأرقام المُعلنة والمنشورة وتلك الحقيقيّة المخفيّة، الأكيد أنّ ضريبة التدخّل في سوريا مرتفعة جداً، خاصة إذا ما قورنت بعدد مقاتلي "الحزب" الذي سقطوا في مواجهة الجيش الإسرائيلي منذ العام 1982 حتى التحرير في 25 أيار 2000، والذين بلغ عددهم 1185 شهيداً بحسب بعض الإحصاءات، و1281 شهيداً بحسب إحصاءات أخرى تنسب إنتماء بعض المقاومين إلى الحزب علماً أنّهم لم يكونوا منخرطين رسمياً في صفوفه. ويبدو أن لا نهاية قريبة للمعارك في سوريا، بغض النظر عن تغيّر وتبدّل هويّة المقاتلين الذين يواجهون الجيش السوري و"حزب الله"، حيث تتوقّع الكثير من التحليلات أنّ تشهد سوريا مزيداً من المعارك في الفترة المقبلة، بين أكثر من طرف وجهة، خاصة في ظلّ وجود نيّة واضحة لدى مختلف الأفرقاء المتقاتلين لبسط السيطرة على مزيد من المساحات الجغرافية، من دون إنتظار ما ستؤول إليه مسألة الحرب الدوليّة على "داعش"، على الساحتين السورية والعراقية، والتي يُتوقّع أن تطول كثيراً هي الأخرى. وقد اضطرّ الحزب في الأشهر القليلة الماضية إلى رفع عديده في سوريا، لتعبئة فراغ سحب وحدات عراقية عادت إلى بلادها بعد سقوط الموصل، وكذلك نتيجة الفشل في إخضاع منطقة القلمون بكاملها، مع ما تُشكّله من خطر على القرى والبلدات الحدودية اللبنانيّة. وإصرار الحزب على المُواجهة يُقابل أيضاً إصراراً من قبل الجماعات المسلّحة على محاربته، علماً أنّ أعداد المقاتلين المنضوين في مختلف تنظيمات المعارضة السورية في تزايد مستمرّ وليس في تناقص، وذلك بفعل تكاثر عدد السوريين الذين لم يعودوا يملكون ما يخسرونه، ونتيجة إستمرار توافد المقاتلين الأجانب من العالم الإسلامي الشاسع حيث يسهل تجنيد بضعة آلاف شهرياً من أصل أكثر من 1,4 مليار مسلم في العالم.

في الختام، قد يكون مفيداً التذكير بأنّ الجيش الأميركي خسر في حرب فيتنام التي تورّط فيها بشكل تصاعدي منذ مرحلة ما قبل الحرب في الخمسينات وصولاً إلى إنتهاء الحرب العسكريّة سنة 1973، ما مجموعه 58,220 عسكرياً، ما حوّل فيتنام إلى عُقدة ذنب لم يخرج منها الأميركيّون سوى بالأمس القريب. لكن وعلى الرغم من ذلك وُجد في أميركا من يَعتبر أنّ واشنطن لم تنهزم في تلك الحرب، لأنّها نجحت في وقف المدّ الشيوعي وفي إضعافه على الساحة العالمية. ولأنّ "حزب الله" يعتبر "الخطر التكفيري" أكبر بكثير من "الخطر الشيوعي" بالنسبة إلى الأميركيّين، ويجهد مع حلفائه لوقف تمدّده جغرافياً، فإنّه لن يتردّد في البقاء طويلاً على جبهات القتال في سوريا، بغض النظر عن الكلفة البشريّة المرتفعة التي يتكبّدها بشكل شبه يوميّ، وهو سيعتبر نفسه منتصراً في نهاية المطاف إن نجح في وقف المدّ المذكور.