أُخرج الأميركيون عام 2011 من العراق وتركوا "خميرة" عسكرية ممثَّلة بسفارة قوامها عدة آلاف وخبراء عسكريون وشركات نفطية، وترنّحوا في أفغانستان مع حلفائهم في "الناتو"، ما اضطرهم لإعادة التفاوض مع إيران حول ملفّها النووي كمقدمة للحوار على ملفات أخرى قبل وصول "الدب الروسي" إلى المنطقة، ما سيجبر الأميركيين على التنازل عن بعض حصصهم لصالح إيران وروسيا، بفضل صمود سورية ومحور المقاومة، الذي منع سقوط الشرق الأوسط بفم التمساح الأميركي، وأجبره على التراجع عن تحالفه مع "الإخوان المسلمين" وإخراجهم من المشهد السياسي لصالح المتطرفين التكفيريين أبناء القاعدة من "داعش" و"النصرة" وبقية الأسماء التي تذبح وتغتصب وتدمّر..

جرّبت أميركا عبر الجيش "الإسرائيلي" إسقاط لبنان عام 2006 ففشلت وانتصرت المقاومة.. جرّبت أميركا إسقاط المقاومة في غزة بالنار "الإسرائيلية" وبالترغيب القطري لقيادتها السياسية، فانتصرت المقاومة على الاجتياح "الإسرائيلي" وعلى انهزامية وتخاذل قيادتها السياسية في قطر.. جرّبت أميركا إسقاط سورية ففشلت، وما زالت المعركة مستمرة، وحشدت لها الإرهابيين من 80 جنسية، ترعاهم دول إقليمية وتمدّهم "إسرائيل" بالمعلومات، وتعالج جرحاهم، ومع ذلك لم تسقط سورية.

عادت أميركا لأرشيفها واستعادت تجربتها مع السوفيات في أفغانستان، حيث هزمته بواسطة الميليشيات الأفغانية وما عُرف بـ"الأفغان العرب" أو "المارينز التكفيري"، فاعتقدت أنها تستطيع إسقاط المنطقة وصناعة "شرق أوسط جديد" بواسطة "داعش" وأخواتها، فكانت "غزوتا" الموصل والرقة وغيرهما، ثم حشدت تحالفاً دولياً استعراضياً لتحجيم "داعش"، وليس لقتلها والقضاء عليها، فالصيّاد الأميركي لا يتخلى عن كلبه الذي سيجلب له الطرائد في العراق، حيث استطاع أن يوهم العراقيين (سُنة وشيعة وأكراد وأقليات) أنه المخلّص والمنقذ، مع أنه هو الذي صنع "داعش" وأرسلها؛ تماماً كما تفعل قطر وتركيا، حيث تخطف المعارضة السورية المسلّحة الزوار والجنود الدوليين والعسكريين اللبنانيين والراهبات بضوء قطري - تركي ثم يقوم الثنائي القطري - التركي بالتوسُّط مع "جماعاته" للإفراج عن المخطوفين، والتلذذ بالمناشدات ثم الشكر، وحجز مساحة إعلامية كبطل ذي وجه إنساني، علّه يمحو الوجه الأسود المسلَّح.

عادت أميركا على أجنحة "داعش" فأسقطت العراق من جديد بطلعات جوية مدفوعة الثمن من السعودية، وتحاول محاصرة سورية للتدخُّل فيها من نافذة قتال "داعش"، وملاحقتها بالالتفاف على القرار الدولي، فاستبعدت إيران وروسيا من مكافحة الإرهاب.

أميركا وحلفاؤها وأخواتها صنعوا "داعش" ثم استخدموها لإسقاط المنطقة، والآن يفاوضون عليها دون قطع رأسها، ويخادعون الرأي العام فيستولدون "داعش" باسم آخر، تماماً كما فعلوا مع "القاعدة" حين استبدلوها بـ"داعش" و"النصرة" لنقلهم إلى إيران وروسيا فيما بعد، وأخيراً في الصين عبر الأقلية المسلمة (الأويغور)، بواسطة الأداة التركية التي تشكّل الطابور الخامس في العالم الإسلامي.

أميركا تعود إلى المنطقة على حساب دول الخليج، وتقاتل بجيوش غيرها من العرب والمسلمين، في حرب حددت وقتها الأدنى 3 - 5 سنوات، ويمكن أن تطول عشر سنوات أخرى، تضاف إليها الأربع سنوات الماضية.. إنها حرب المائة عام التي "بشّر" بها هنري كيسنجر، وإذا ما احتُسبت منذ اشتعال الحرب العراقية - الإيرانية عام 1979 فتكون المدة الباقية من حروبنا المذهبية والطائفية حوالي الستين عاماً.. ولذا فإن الأفعى الأميركية المسماة الحركات "الجهادية" التكفيرية ستبدّل جلدها وأسماءها وتتنقّل في جغرافيا العالم الإسلامي؛ من ماليزيا وأندونيسيا إلى الهند وباكستان وأفغانستان، إلى الشرق الأوسط، في حرب مماثلة للحروب الدينية في أوروبا، والتي استمرّت أكثر من مائتي عام (ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت بين العامين 1618 و 1648) في ألمانيا، التي خسرت نصف سكانها تقريباً، وحوالي الأربعين عاماً في فرنسا (1562-1598)، وكانت شديدة الوحشية، عبر عمليات القتل والحرق والتهجير حتى داخل القرية الواحدة، وتناقص عدد سكان تشيكيا حوالي الثلث.

سكاكين داعش وأخواتها تذبح المقاومين للمشروع الأميركي وتغطي آيات القرآن الكريم بدماء الأبرياء، وتطعن الإسلام ولا تطعن العدو.

مسؤوليتنا جميعاً التصدي للغزو الأميركي المقنَّع برايات "داعش" و"النصرة" وأخواتهما، فإن لم يهزمنا الأميركي و"الإسرائيلي" بالغزو المباشر فلن يهزمنا عبر التكفيريين، ولا بد من مقاومة فكرية وإعلامية متلازمة مع المقاومة الميدانية، فالخطر كبير، ولا نجاة لأحد من سكاكين أميركا الداعشية.