اشتدّت العواصف في المشرق العربيّ في المثلّث السوريّ-العراقيّ-اللبنانيّ، وانشدّت المجتمعات كلّها إلى سبر أغوار التداعيات التي تراكمت في جوف هذا المثلّث، محدثّة التمزّق في احشائه، وبداءة التمزّق ناتج من استفحال الحرب المذهبيّة بين الشيعة والسنّة، ومن ثمّ سلخ المسيحيين عن أرضهم وذبح الأزيديين وتهجيرهم من تنظيم شاء إعادة هذا المدى إلى جوهر الخلافة الإسلامية باعتناقه ثقافة الحروف المغلقة والنافية لكل جنس آخر.

لم يصل أنين الموجوعين من مسيحيين وأزيديين إلى آذان الغرب وبخاصّة الأميركيّ. ولم يحرك صراخ الأطفال وسبي النساء الرئيس الأميركي باراك أوباما. لقد انتفض فقط وأسس لهذا الحراك الدوليّ والجزئيّ، حين شاهد شابين أميركيين يذبحان على يد هذا التنظيم بوحشيّة مفرطة، من دون أن يرتجف أو يرتعش بالحدّ الأدنى، لمأساة المسيحيين والأزيديين. فحشد حوله بعضًا من الدول على رأسهم قطر والسعودية في الخليج، ليوحي للمجتمعات قاطبة بأن الحرب بدأت على "داعش"، ولا هوادة فيها على الإطلاق.

في مسرى المتابعة لحركيّة الرؤية الأميركيّة، يتبيّن للمتابعين بأنّ الإدارة الأميركيّة لم تكن جديّة في أيّ لحظة في الحرب على الحركات التكفيريّة بدءًا من "القاعدة" وصولاً إلى "داعش"، على الرغم من اعتداءات "القاعدة" المباشرة في أحداث الحادي عشرمن أيلول سنة 2001. وعلى الرغم من الجراح المثخنة التي أحدثتها تلك الاعتداءات المباشرة للإدارة الأميركيّة، وبدلاً من شنّ حرب ضروس عليها، إزداد استهلاكها للورقة الإسلامويّة بإطاريها الحركيّ-"الإحيائيّ" والتسمية لرضوان السيد، والتكفيريّ-التشدديّ، للدخول في عمق الشرق الأوسط بدءًا من بوابة العراق وبغداد تحديدًا، والقضاء على صدّام حسين، وصولاً إلى استغلال اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وإنهاء مرحلة الاحتلال السوريّ، مرورًا بالحرب الإسرائيليّة على لبنان سنة 2006، والحدثان الأخيران أفضيا للكلام على شرق أوسط جديد بحسب تعبير كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركيّة السابقة، حتّى دخولنا في ما سمي بالربيع العربيّ انتهاءً بالحرب في سوريا وهي عينها سارية المفعول في العراق. فهل نحن وفي هذه العاصفة الهوجاء في العراق وسوريا أمام عمليّة استئصاليّة لتنظيم "داعش" من جذوره، أو استثماريّة جوفاء في تضاريسها ومنعطفاتها، تعيد هذا التنظيم إلى حالته التي رسمت له، قبل الانقلاب في العراق وتهجيره للمسيحيين من الموصل وسهل نينوى، وبها اخترق الحجب وأعلن مع الجزائريّ دولته بين الشام والعراق، فيبقى مجرّد ورقة إرهابيّة تخدم إسرائيل والمصالح الأميركيّة، وتعيق تطور الشعوب العربيّة نحو الديمقراطية المولودة من رحم التنوّع، حيث هو الطريق لترسيخ المواطنة؟

الصورة البادية الآن خلف المفردات المنطوق بها أميركيًّا، أظهرت مجموعة تناقضات في مدى المنطق عينه. فقد اختلف كلام رئيس الأركان الأميركي مارتن ديمبسي كثيرًا عن تحديد أوباما للحرب على تنظيم "داعش"، وهو خلاف ظاهر للعلن حول استخدام الجنود الأميركيين في حرب بريّة (ديمبسي)، أو الاكتفاء بضربات عسكرية جويّة (أوباما). أمّا وزير الدفاع الأميركيّ تشاك هيغل، فقد قال: "نحن في حالة حرب مع داعش"، ولفت النظر إلى أنّ "الحرب لن تكون سهلة أو قصيرة... وهي تحتاج لشركاء حقيقيين في سوريا والعراق"، بمعنى أنها حرب بلا آفاق.

تلك التناقضات أوحت بهيلكيتها أن القراءة الأميركيّة لا تزال في إطار بدائيّ حشد هذا الكمّ من الدول تحت عنوان الشراكة في الحرب على "داعش" من دون توضيح وتفسير جوهريّ لمعنى الشراكة ومضمونها وأبعادها ومستقبلها ولآفاق الحرب واستراتيجيّتها. وتأتي تلك الشراكة التي بات لبنان جزءًا منها بلون أحاديّ الجانب في الشكل، غير معبرة عن توافق علنيّ بين الأميركيين والإيرانيين حول سوريا والعراق، ومستغيبة روسيا التي حاول الأميركيون إغراقها في الوحول الأوكرانيّة، لتظهر بهذا الاستغياب بأنّ ثمّة محورًا قد بدأت ترتسم معالمه، باستثمار الحرب على تنظيم "داعش"، وخرق بعض الحجب وتمزيق بعض الخطوط بمحاولة إسقاط الدولة السورية برئاسة بشار الأسد. وهذا يدلّ على أنّ الحرب على هذا التنظيم المتوحّش موضعيّة وليست موضوعيّة، شكليّة وليست وجوديّة، وهي عمليّة استثماريّة وليست استئصالاً لهذا الورم الخبيث، الذي أخلّ كثيرًا بالتوازن في الشرق الأوسط، وكأنّ الخلل بهذا المعنى تمتمة للمشيئة الإسرائيليّة المخطّطة لعملية التفكيك منذ خمسينيّات القرن المنصرم.

السؤال الذي لا بدّ من طرحه في معرض القراءة التحليليّة، هل الحرب المنطلقة من معايير نافرة ومفاهيم بنيويّة متناقضة ستضعف هذا التنظيم الشرس والموغل في الوحشيّة المفرطة، أو أنها ستزيده قوّة وصلابة وشراسة؟ ولا بدّ أيضًا من سؤال استطراديّ مستتبع، هل إنّ بعض الدول الخليجيّة التي ساهمت بولادة هذا المسخ بالبيئات الحاضنة له بالعمق السياسيّ والماليّ انقلبت على تلك المولوديّة لحرصها على بهاء التنوّع الذي بدأ يتآكل؟! أو لشعورها بأن هذا التنظيم، وهو صورة طبق الأصل، عن هيكلها النظاميّ والفقهيّ، بدأ يعبّد الطريق ليحلّ مكانها؟

لن تكون الإجابة سهلة في المدى المنظور. غير أن سوريا ولبنان والعراق، هذا المثلّث الملتهب سيزداد التهابًا ويكون، تاليًا، مسرحًا لحرب معالمها معروفة، لكنّ آفاقها ونتائجها مجهولة وغامضة، في ظلّ التناقضات البنيويّة في المدى الأميركيّ، وفي شدّ الحبال بين القطريين والأتراك من جهة والأميركيين والسعوديين من جهة ثانية، حول مفهوم حرب الاستثمار على هذا التنظيم، ومعاييرها. وفي خضمّ هذا التراكم الكميّ المتفاعل عنفًا واضطرامًا واضطرابًا، قد تزول خطوط قديمة وتنشأ خطوط جديدة، بحال لم يتمّ اسئصال هذا التنظيم الخطير من جذوره، والإبقاء عليه محجّمًا كورقة للاستثمار الإرهابيّ فقط.