بعد مؤتمر باريس المنعقد تحت عنوان محاربة الارهاب في العراق ، بدأ يتضح اكثر مسار خطة اوباما المسماة " الحرب الدولية على الارهاب " بقيادة اميركا التي تحلم بتوليف تحالف دولي يعيد لها البريق الذي ذوى بعد ما يقارب الربع قرن على انشاء اول تحالف دولي بقيادتها تحت عنوان التحالف لتحرير الكويت . و قد توضحت خريطة المواقف الدولية بشكل اكبر ما حمل اميركا على رفع مستوى النبرة و حدة الخطاب لتقنع المترددين بالانضمام اليها و بانها جادة فيما تخطط له و تعلن من حرب .

في هذا السياق جاء كلام وزير الحرب الاميركي مؤكدا على قرار اميركا ب"قيادة ائتلاف دولي واسع ضد تهديد تنظيم داعش " التي هي قي الاصل منتج اميركي و جسر عبور لاميركا للعودة الى ميدان المنطقة ، و لاقاه رئيس الاركان الاميركي بتوضيح اسلوب العمل في المنطقة عامة و سورية خاصة بقوله أن الضربات الجوية التي تعزم اميركا على اللجوء اليها " ستكون متكررة ومستمرة وليست بأسلوب الصدمة والرعب" ، و كان سبقهم اوباما في تصريحاته المتتالية الى القول بان الحرب التي ستبدأها اميركا بطيرانها في العراق ثم في سورية تستلزم وقتا ادناه 3 سنوات و انه سيسلم المهمة الى خلفه (اي في العام 2017 ) الذي لا يظن انها سينهيها (خلال اربع سنوات الولاية الرئيس الاميركي ) ,

ان اميركا في مواقفها الاخيرة ترسم مشهدا جديدا تطرح حوله الاسئلة الكبرى حول طبيعة الحرب التي تريد زج المنطقة فيها و اهدافها الحقيقة من تلك الحرب ، ودور الائتلاف او التحالف الدولي الذي تسعى اليه ليكون شريكها او اداتها في تلك الحرب ، خاصة و اننا نذكر بان حروب اميركا في العقود الثلاثة الاخيرة اعتمدت على فكرة التحالف الدولي بقيادتها بقرار او من غير قرار من مجلس الامن .و رغم ان اميركا حققت عبر تلك التحالفات شيئا من اهدافها لكنها في المحصلة النهائية لم تصل الى تحقيق الهدف الاكبر و هو اقامة نظام عالمي بقيادتها و هذا ما يؤرقها اليوم و يدفعها للعمل لمنع الانهيارات المحتملة في مواقعها الاستراتيجية الدولية .

و في ظل ما آلت اليه اوضاع المسرح الاستراتيجي الذي تسميه اميركا وفقا لتقسيماتها العسكرية للعالم " المنطقة الوسطى " و ما فيه من خيبات اميركية ، و في ظل عجز عسكري اميركي عن تكرار ما حصل في افغانستان التي ستخرج منها و معها الحلف الاطلسي دون ان تثبت السقف الذي وضعته لمصالحها هناك ، و بعد الفشل الاميركي في اسقاط سورية رغم عدوان يستمر قائما عليها منذ اربع سنوات ، و مع القرار الاميركي بالانتقال العسكري الهادئ من الشرق الاوسط الى الشرق الاقصى في مواجهة الصين : و مع خوف اميركي من ان تتمكن القوى الاقليمية و الدولية الصاعدة و المناهضة لاميركا ، من ملأ الفراغ و امتلاك ناصية القرار و النفوذ في الشرق الاوسط و اقامة شرق اوسط لاهله على انقاض الاحلام الاميركية بشرق اوسط اميركي ، في ظل كل ذلك جاءت استراتيجية اوباما الانتقامية من المنطقة و برزت الحاجة الى تحالف دولي للسير قدما في تنفيذها عبر الخطوط و الخصائص التي تجعل من الحرب التي ستترجم هذه الاستراتيجية مختلفة في كثير من عناصرها و مزاياها عن الحروب الاميركية لسابقة .

ففي طبيعة الحرب بذاتها ، و في تحليل للافكار و المواقف الاميركية نجد ان المخطط الاميركي يتجه الى تفجير حرب استنزاف طويلة يكون هو مديرها و ضابط ايقاعها و المشارك بشكل محدود بخدمتها النارية دون ان يضطر الى حفر الخنادق لجنوده او نقل الجحافل العسكرية و فتح الجبهات الطويلة التي يراق فيها دم الاميركيين على رمال الشرق الاوسط و صخوره , و لهذا نجد الحديث المتصاعد عن مهل ال 3 سنوات و العشر سنوات و المهل المفتوحة ايضا ، و حرب الاستنزاف هذه تؤكدها تصريحات رئيس الاركان الاميركي عندما يلوح بامكان ارسال قوات برية اميركية الى العراق لاجتثاث داعش بينما يقول في الان نفسه انهم لا ينوون القضاء عليها في سورية بل اضعافها ، يقول ذلك مع علمه الاكيدين بان داعش جعلت من سورية و العر اق ميدانا واحدا لها و القضاء الفعلي عليها يستوجب العمل في الميدانين معا و بالتنسيق مع اصحاب السيادة على الارض و هذا ما لاتفعله اميركا في سورية لانها تريد شيئا اخر تريد ابقاء داعش و الاستمرار في حرب الاستنزاف ..

انها حرب استنزاف اذن يحتاج فيها الاميركي الى قوى تتناحر على اليابسة ، و يدير تناحرها بشكل يمنع احد من الفرقاء من الحسم مهما حقق من انتصارات في الميدان ، كما يمنعه من استثمار انتصاراته الا اذا كان الاستثمار سيؤدي الى تسعير النار ، كما يمنع الطرف الاخر من الاستسلام و اخلاء الميدان . و لذلك يعمل الاميركي على توفير احتياجات حرب الاستنزاف تلك بشكل يمكن نارها من التأجج الدائم .و بهذا المنطق نفسر سعي اميركا الى التحالف الدولي الذي يؤمن المال ( عبر السعودية و الخليجين الاخرين ) و يؤمن الارهابيين الذين يشغلون الميدان و يؤمن متطلبات الحرب النفسية كما انها التزمت هي بذاتها بالحضور الى الميدان بطيرانها من اجل تنفيذ ضربات جوية تكون بمثابة جرعات نارية تسعيرا للحريق الذي اضرمته ، و لذك نعتبر ان التدخل الجوي الاميركي ذو غاية رئيسية في الميدان هي المحافظة على النار المشتعلة خدمة لمنطق حرب الاستنزاف .

و الان و بعد اتضاح الصورة يكون ملحا البحث عن خطة دفاعية ملائمة للتصدي للعدوان الاميركي الارهابي الذي اذا نجح في تحقيق اهدافه ، سيحرم المنطقة و محور مقاومتها من استثمار الكثير من انتصاراتها و انجازاتها السابقة في وجه المشروع الصهيواميركي، و في هذا السياق نرى ان المستهدف بالعدوان الاميركي في صيغته الجديدة بحاجة الى ما يلي :

1) الاستمرار بالمواجهة الصلبة و العمل على خطين متلازمين يكون في الاول منهما تجنب الافراط بردات الفعل و عدم اللجوء الى القوة المفرطة التي تستنزف الطاقات في غير محلها او في غير وقتها ( اهمية الالتزام بجدول اولويات صارم ) اما الثاني فيكون عبر تجنب الاسترخاء و التقليل من مخاطر التهديدات .

2) الحذر من الوقوع فريسة الحرب النفسية الارهابية ، و التذكر دائما بان اميركا تعمل في عدوانها على خطين ايضا هما عدم الوصول الى الانفجار الكلي الشامل ، و عدم خفوت النار بشكل يمكن الخصم من تحقيق الانجازات الميدانية و استثمارها ( لذلك لا نتوقع ان تصدم بالجيش العربي السوري او بخلفائه مباشرة ) .

3) صياغة الذات و البيئة الاجتماعية و الطاقات و برمجة الكل لتناسب حرب استنزاف طويلة ، و هنا يحضرني تركيز الاعلام الغربي الاستقصائي على معرفة قدرة سورية على حرب طويلة .

4) هيكلة المجتمع و مؤسساته بما يمكنها من امتلاك المناعة امام الحرب النفسية اولا ، ثم تمكينها من العمل في ظل حرب استنزاف قاسية و طويلة . لان مجتمعا مفككا و اقتصادا مترنحا سيكل ضغطا على صانع القرار و قد يقود الى تحقيق اهداف العدو من حرب الاستنزاف بشكل جزئي او كلي .

و في نظرة اجمالية نرى ان الكثير من مقومات النجاح في مواجهة حرب الاستنزاف الاميركية متوفر ، كما ان الظروف ليست في صالح اميركا كما كانت قبل عقد من المزمن فالتحالف الدولي الذي تسعى اليه اميركا ليس سهل الانشاء (لم ينشأ بعد ) ، و الظروف الدولية ليست في صالحها كما لا نجد ارضية واقعية صالحة لتسعير حرب الاستنزاف كما تريد اميركا ، كل ذلك يدفعنا للقول بان هذه الحرب الاميركية الجديدة لن يكون مصيرها افضل من المحاولات الاميركية الفاشلة ، لكن ينبغي ان لا نغفل الثمن الباهظ الذي قد نضطر لدفعه في سياق العمل لافشالها .