في أقلِّ من أسبوع، إرتسمت في أذهان اللبنانيين ثلاثة لبنانات، إذا صحَّ التعبير:

لبنان مؤتمر الدفاع عن المسيحيين الذي انعقد في واشنطن.

لبنان الذي كان حاضراً في حفل تنصيب مفتي الجمهورية.

ولبنان التطرُّف المتنقِّل في أكثر من منطقة لبنانية.

***

اللبنانيون العريقون، وهُم الأكثرية والغالبية، متمسكون باللبنانَيْن الأولَيْن:

لبنان الدفاع عن مسيحيي الشرق، ولبنان الإلتفاف حول المفتي الجديد. هذا هو لبنان الذي نعرفه ولا نريد أن نعرف غيره. لبنان الذي يقف في وجهِ سيناتور أميركي في واشنطن لأنَّه أراد تسويق التطبيع مع العدو على هامش المؤتمر، فطُرِد من القاعة وسط إجماع الحاضرين على إستنكار خطابه السياسي.

ولبنان الإعتدال الذي وقف صفاً واحداً في حفل تنصيب المفتي الجديد.

***

لبنان الإعتدال تمثَّل، أول ما تمثَّل في كلمة المفتي الجديد الذي شعر كلُّ لبنانيّ بأنَّه يتكلَّم بإسمه حين قال:

ليس صحيحاً أنَّ الإعتدال ضعيف أو خفيض الجانب، صحيح أنَّه إختيار صعب وسط صيحات التعصب، ونزعات التطرُّف، لكنَّه قويٌّ وقويٌّ جداً بموازين الحياة الكريمة، وصلابة الحق، وقيم الخير والعدل وإنسانية الإنسان، وقويٌّ أيضاً بالإرادة العازمة التي لا تلين من أجل الإصلاح والنهوض في محيطنا الأقرب، وفي المدى الأبعد. كيف نكون بشراً ثم نسمح، بل ويشارك بعضنا بهذه الجرائم التي تنوء تحتها الأديان والأوطان وإنسانية الإنسان.

ويبلغ المفتي الجديد ذروة النطق بإسم الجميع حتى بإسم المراجع حين يقول:

ماذا تسمون حالتنا نحن في لبنان، إن لم تكن قد بلغت حدود الجريمة الأخلاقية؟

لم يتمكن المجلس النيابي اللبناني حتى الآن من الإلتئام في جلسة مخصصة لإنتخاب رئيس للجمهورية، مع أنَّ هذا المجلس قد تحول إلى هيئة إنتخابية وأصبح إنتخاب الرئيس الجديد الذي هو الرئيس المسيحي الوحيد في العالم العربي هو واجبه الأول؟.

أليس هو الكلام نفسه تقريباً الذي قاله ويقوله البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي سواء في بكركي أو في الديمان أو في واشنطن أو في جولاته الداخلية والخارجية؟

***

وبمعنى الشركة والمحبة التي رفع شعارها البطريرك الراعي، تحدّث الرئيس تمام سلام في الحفل ذاته، فاعتبر أنَّ الحفاظ على الوجود المسيحي واجب إسلامي:

إننا ندعو المسلمين، اللبنانيين والعرب، إلى خوض معركة تثبيت المسيحيين في أرضهم، والحرص الكامل على وجودهم وفاعليتهم في لبنان والعالم العربي، وعلى تكاملهم وشعورهم بالإنتماء والرضى، بعيداً عن أيِّ شعورٍ بالإحباط، أو بالحرمان، أو بالخوف على المستقبل.

بعد هذا الكلام هل من خوف على لبنان؟

لقد عزَّز مقولة الإعتدال أيضاً شيخ عقل الموحِّدين الدروز الذي سار على النهج نفسه من خلال قوله:

نرفع الصوت عالياً إعتراضاً وشجباً للأعمال المرفوضة التي يتعرض لها مسيحيو الشرق، خصوصاً في العراق، إذ نراها مناقضة تماماً لروح الإسلام السمح، وللبعد الحضاري الثري الذي يجب أن نحافظ عليه ونثرى به.

وقد لاقاه في منتصف الطريق نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بقوله:

إنَّ لبنان قطعة من السماء ومن الجنة ومن الوجدان، فاحفظوا لبنان يحفظكم الله، لذلك نطالب بأن نكون عقلاء ومحبين وننسى الماضي وننزع السلاح من أيدي الناس ليكون فقط بيد الدولة والجيش.

***

إنَّ المشهد الذي ظهر في حفل تنصيب المفتي الجديد كان ينقصه رمزٌ واحد هو رئيس الجمهورية، فكلُّ الكلام الذي قيل كلامٌ يُحفَر في الصخر لكنَّ الروحَ تنقصه، وهذه الروح هي إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، وما لم تتحقق هذه الخطوة فإنَّ كلَّ الكلام يذهب هباء.

فعلى بُعد أمتار من هذا الحشد الذي كان في حفل تنصيب المفتي في قاعة رفيق الحريري في مسجد محمد الأمين بوسط بيروت، يقع المجلس النيابي، فلماذا لا يشهدُ هذا المجلس حشداً مماثلاً لإعطاء الروح لهذه الجمهورية؟