يشي خطف المعاون الأوّل في ​الجيش اللبناني​ّ كمال الحجيري، إلى جانب العسكريين الرهائن من قبل تنظيم "داعش" و"​جبهة النصرة​" بعبثيّة الواقع المهيمن على الحركة السياسيّة بالإطارين الداخليّ البنيويّ والخارجيّ ببعديه الإقليميّ والعربيّ. لا يمكن مقاربة عملية الخطف كمن ينتمي إلى مذهب الفنّ للفنّ، ذلك أن لبنان في قلب العاصفة وعينها، والفراغ في مؤسسة رئاسة الجمهورية والمجلس النيابيّ قاتل، ومطلّ من حركة الخارج إلى الداخل ومن انتظار الداخل لتسويات الخارج في حقبة ما بعد العاصفة، إذ لا تسويات في العواصف.

ما يخيف، في ظلّ المعلومات المتراكمة هنا، أنّ فصل بلدة عرسال عن جرودها لم يفصل طرابلس على الإطلاق من تغلغل وتسلّل هذه القوى بفصائلها إلى المدينة استعدادًا لفتنة موحى بها، أو مستوحاة من الحرب في العراق وعليها، كما في سوريا وعليها. هذا التسلّل الفجّ لا يدرك إلاّ ببيئات حاضنة على المستويات السياسيّة والماليّة، والأسئلة المطروحة تتمحور حول ما إذا البيئة السنية الطرابلسيّة ستتقيّأ هؤلاء وستلفظهم إلى جحيمهم، أو أنها ستعيد احتضانهم؟

رصانة مفتي الجمهوريّة عبد اللطيف دريان بالخطاب البليغ الذي نطقه تأبى الاحتضان. ومن علامات رفضه لتلك التنظيمات تساؤله: "لماذا يكون على المسيحيين أو على الأزيديين أو على السنة أو على الشيعة أو على غيرهم أن يواجهوا القتل والتهجير بسبب الدين أو بسبب المذهب؟ وممّن؟ من جانب عصائب ضالّة ومضلّة وباسم الدين أو باسم المذهب أو باسم شهوات السلطة والثروة والإمبراطورية؟"... "لدينا نحن أهل العلم والدين أمر إلهيّ بمواجهة هذه الجرائم".

هل تؤسّس تلك الرصانة وبلاغة النطق لعملية جراحيّة استئصالية في الداخل اللبنانيّ، أو أنّهما في مكان والفعل في مكان آخر فيحجب الفعل الرؤى بعمليّة استثمارية تؤسّس لمحور مواجه لمحور آخر يظلّ الكيان اللبنانيّ أسيرًا لمفرداته؟

يكشف الواقع بثلاث نقاط ضعف تستبدّ بلبنان الوجود والدولة والكيان.

النقطة الأولى الفراغ في سدّة الرئاسة، إذ أنّ الرئيس هو الدماغ والعقل. فهل يسوغ أن يعيش الجسد اللبنانيّ خاليًا من العقل والدماغ؟

النقطة الثانية تأرجح المجلس النيابيّ ما بين الفراغ والتمديد، وما يمكن أن يظهره التمديد كما الفراغ في المجلس من تداعيات متلازمة مع الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى.

النقطة الثالثة وجود لبنان في دائرة الصراع في المنطقة وعليها، المستهلك للعناوين الدينية والمذهبيّة النافرة ببيئات حاضنة تقتات من الفراغ، وتجعل الصراع في لبنان عاموديًّا بالمطلق.

تلك النقاط الثلاثة المتراكمة في الجسد اللبنانيّ، مبعث للانفجار وتحجب إمكانية الانفراج، بالاتفاق الداخليّ على مفاهيم تستقرئ خطورة تلك المنظمات ومدى انعكاس تلك الخطورة على البنيان اللبنانيّ المتأسّس على التوازن، حيث الخلل شلل له. معظم المعلومات والدراسات تشير إلى اتفاق في الشكل على المواجهة، ولكنّه خال من مضمون حقيقيّ، بسبب انتظار بعضهم اتفاق سعوديّ-إيرانيّ يؤلّف لحلّ داخليّ يبعد شبح داعش ويولد منه رئيس جديد للجمهوريّة.

غير أنّ الواقع الرّاهن أعاد الأرض اللبنانيّة إلى المربّع العبثيّ بسبب الخلل والتناقض الدوليّ في عملية المواجهة وشعورالمحورالإيرانيّ-الروسيّ-السوريّ بأنه المستهدف من لقاء جدّة، فانفجر اليمن، وتتنظر البحرين دورها في عودة واضحة إلى صراع المحاور وتورّط الأميركيين بها تحت ستار الحرب على داعش.

إنّ استغياب إيران وروسيا لا يوحي بأنّ الحرب جديّة ووجوديّة، بل يوحي باستمرارالصراع المذهبيّ وديمومته على عكس ما يحاول بعضهم إظهاره. الإظهار إنكار للحقيقة وخيانة لها. والإيحاء الأميركيّ بطول مدة الحرب التي تتنكّر لتلك الحقيقة تبقى استثمارية واستعراضيّة، يقودنا في لبنان إلى طرح سؤالين جوهريين: هل يتحمّل لبنان ويتحمّل المسيحيون فيه على وجه التحديد، وهم المطلّ الوحيد والفريد لمسيحيي الشرق خلوّ الرئاسة من الرئيس لمدّة قد تطول لثلاث سنوات؟ وهل مجلس الوزراء برئاسة تمام سلام يملك التصميم الفعلي لعملية استئصاليّة وجوديّة بلا مقاربات هشّة وخطابات فضفاضة لتنظيم أوقع المنطقة كلّها في خلل بنيويّ وجوديّ؟

المخيف في المعلومات الواردة، أن مشيئة الداعشيين والنصرويين تستهلك التلاشي المقيت والفوضى الهدامة والفراغ القاتل، كعنوان واحد للانقضاض على الدولة بحدودها السياسية والجغرفية الطبيعيّة، كما تحاول الانقضاض في العراق وسوريا. فالدولة عدوة لخلافة تخرج الإسلام من معناه الكامل وتراثه الكليّ، وإطاره القرآني، إلى شرطي يخيفنا ويستهلك حياتنا في كل شيء كما كتب غبرييال لوبرا. ذلك أن الإخراج هو المقدّمة لطمر التنوّع واستبداله بآحاديّة ثيوقراطية، تلغي مفهوم الديمقراطية التشاركيّة التي بنيت عليها دول الهلال الخصيب، أو دول برّ الشام سواء بنسب كثيرة أو قليلة.

إبادة الدولة اللبنانيّة انطلقت من ضرب العصب الأمنيّ والعسكريّ، المتلازم مع الحركة السياسيّة المتأسسة في حقيقتها على طبيعة لبنان المتنوعة وجوهره الميثاقيّ المؤسّس للديمقراطية التشاركية. لا يقوم الحلّ الآنيّ سوى يعملية جراحيّة تبدأ بتفكير جديّ حول ما إذا النظام السياسيّ الذي نحن عليه قابل للديمومة أو قد اهترأ ويجب الانتقال إلى نظام جديد؟ القراءة صعبة ومعقّدة للغاية في ظلّ تلك الظروف العاصفة، وقد تعودنا في ظروف الحروب أن يحسم الميدان بعضًا من هذا التفكير، ويؤسس لقراءة جديدة. فانتخاب الرئيس ميشال سليمان جاء نتيجة عمليّة أمنية حسمت الكثير من الخيارات تمحورت باتفاق الدوحة ولو كان تسوويًّا. فهل نحن في لبنان جاهزون لهذا الحسم ولو أن البعض بالشكل مدرك لخطورة تشرّش تنظيم داعش في المدى اللبنانيّ؟

إنّ العودة إلى صراع المحاور ستبعثر إمكانية المواجهة، وتعثّر التفاوض الرصين، وكل حوار شفّاف. غير أنّ الحكومة اللبنانية إذا شاءت التحرّر من أيّ اصطفاف داخليّ أو خارجيّ، أو إذا امتلكت قدرة التحرّر بحدّها الأدنى، يفترض بها التخطيط للمواجهة بالحوار مع من هو أقرب جغرافيّا إلينا، اي مع الحكومة السورية. فالحوار معها يضمن، وكما يشير عدد كبير من الخبراء إنهاء الداعشيين ما بين جرود عرسال والقلمون، بكمّاشة قاتلة، فيضعف امتدادهم نحو طرابلس وعكار لتعيد الشمال إلى أتون مضطرم لا يشبع من الجثث والدماء.

يرجو الكثيرون أن تقوم الحكومة بهذا الحوار، إذ للجميع مصلحة به لكي نعكف على ترتيب بيتنا الداخليّ والشروع بانتخاب رئيس للجمهوريّة وإقرار قانون انتخابات يؤمن المناصفة الفعليّة، فتعيد الهيكل اللبنانيّ إلى توازنه المفقود حاليًّا.