يشبه لبنان في ظروفه وحكومته الحالية، ذلك الرجل التائه في قلب العاصفة الثلجية فوق الجبال. هو تائه، مغمض العينين غير مدرك لخطورة العاصفة، وغير راج لربيع زاهر يطل من بعد العواصف، كما قال الأخوان عاصي ومنصور الرحباني: "من بعد العواصف جايي الربيع". يسير تائهًا، زاعمًا أن التيه هو اليقين، وينسى، تاليًا، أن هذا اليقين الأجوف سيقذفه بالرياح العاتية إلى موت عبثيّ، فيصير جثّة جامدة متجلّدة تطمرها الثلوج وتحجبها عن الوجود.

مأساة لبنان بحكومته الحالية، وبالفراغ المهيمن عل سدّة الرئاسة الأولى أنّه عصب عينيه عن الرؤية بورقة النأي بالنفس وهي التيهان عينه. لم ينأً الأطراف السياسيون بأنفسهم عن الصراع في سوريا وعليها، بل جاء النأي غطاءً وحجابًا للاندراج في عمق الصراع من دون احتساب ما يمكن أن يعكسه التورط الملتبس المتماهي كثيرًا مع تلك الإفرازات التي غدت في أرضنا على واقعنا السياسيّ والأمني والاقتصاديّ. فقد دخل التكفيريون من جبهة نصرة ومنظمة داعش المدى اللبنانيّ، في غمقه السياسيّ وسياقه الأمنيّ. فأحدثوا فيه الفجوات، واستغلّوا بؤس النازحين ليتموضعوا في وسطهم في ظل بيئات حاضنة، ويمعنوا في تمزيق الكيان، من عرسال إلى طرابلس.

لم يعد لورقة النأي بالنفس من معنى في ظلّ الفجوات المتلازمة مع عودة المنطقة إلى صراع المحاور، المتجلبب بعملية استعراضيّة فظّة عنوانها القضاء على تنظيم داعش. وغالب الظنّ، أنّ العملية محصورة بتقليص امتداد هذا التنظيم، وهذا مثبت في الأدبيات الأميركية الظاهرة بعد لقاء جدّة. وفي قراءة تاريخية موصولة بالمستقبل، لم ينأَ لبنان نفسه مرّة واحدة عن الصراع في محيطه القريب والبعيد، أي صراع كان، وبأية عناوين مستهلكة. فهو مبذول من أجل الآخرين في حروبهم وتسوياتهم على حساب شعبه وتوازن مكوّناته. لم يذق نفسه وطنًا بمقومات الوجود. فقد اندلعت الحروب على أرضه من أجل الآخرين كما رأى الراحل غسان تويني. هو أرض للصراعات والتسويات. من هنا ساغ طرح السؤال التالي، في ظلّ الخلل الذي تحدثه داعش من تهجير للمسيحيين في العراق، والأكراد في شمال حلب، وتوقع المسؤولين ازدياد تدفق المزيد من اللاجئين مما يحدث ارتجاجًا كبيرًا في البنيان اللبنانيّ، لماذا لا تعتمد الحكومة اللبنانية هذه الرؤى كأسباب موجبة، وتبادر بمكوناتها السياسيّة، إلى التحرر من التوصيف الشكليّ الفضفاض لعمق الأزمة المتراكمة في دواخلنا جميعًا، وتتصدّى لتلك التداعيات الخطيرة، بمعايير أمنية صارمة بنيويًّا، وبآفاق حوارية متماسكة تقود لبنان كدولة ذات سيادة للحوار مع الحكومة السورية بغية تقليص الأخطار، وتحجيم حضور داعش في العمق اللبنانيّ؟ ألا يستحقّ هذا الخطر الوجوديّ تخطّي الحجب المرسومة، لنتماسك في المواجهة الفعليّة فنعيد لمكوناتنا المشرقية توازنها الموضوعيّ وتنوعها البهيّ؟

ثمّة معلومات خطيرة أشارت إلى أنّ طرابلس وعكار ستعود مسرحًا آخر لانفجار متجدّد، ومعلومات أخرى طبقًا لتقرير رسميّ تخوّفت من أن يكون كلّ مخيّم ناشئ امتدادًا لعرسال، والتجربة اللبنانيّة كانت قاسية مع المخيمات القديمة والناشئة.

من هنا وطبقًا لكلّ المعلومات المنشورة وغير المنشورة، وللرؤى المنظورة وغير المنظورة، لا بدّ من طرح تساؤل حقيقيّ، وجوديّ وجديّ، خاليًا من أي اصطفاف قائم على التعليب من هنا أو هناك، وبعيدًا من صراع المحاور الذي ألهب المنطقة بصراع مذهبيّ واضح، هل سوريا، وليس الكلام مباحًا حول طبيعتها، عدوّة لنا مثل إسرائيل، حتّى نعصم أنفسنا من الحوار معها أقلّه في مسائل تحولت ألغامًا تفجّر أحشاء هذا البلد وذاك؟ ألا تقتضي الحرب الوجوديّة الشرسة التي تشنّها داعش على الجميع التحرّر من الاصطفاف، حيث زجّ الجميع أنفسهم في أتّونه، والخلوص إلى مسلمات سياسيّة وجودية حامية للكيان والوطن والدولة، ومنفتحة على الجار الأقرب بحوار رصين؟

لقد أظهر السفير الأميركيّ ديفيد هيل مخاوف جديّة من امتداد هذا التنظيم المتوحّش في المدى اللبنانيّ كلّه وبخاصّة في الشمال، وجاءت مخاوفه متلازمة مع تفريغ مناطق في سوريا من مكوناتها ولجوء هؤلاء إلى لبنان. ليس الحديث، وبهذا المعنى، محصورًا باللاجئين في المنظور الأميركيّ، بل يمكن تفسيره أمنيًّا، طبقًا لجدلية وجود المخيمات في جرود عرسال وتجربتنا السيّئة معه، وما أحدثه هذا الوجود من خطورة أمنية بالغة انعكست على الجيش اللبنانيّ خطفًا وقتلاً. إنّ التفسير الأمنيّ غير محصور في قراءة غربيّة، ذلك أنّ المكونات اللبنانيّة إذا ما رامت الإخلاص للجوهر اللبنانيّ الميثاقي، مدعوة إلى المواجهة القصوى، إلى الوحدانية في تبيان معايير الحرب وآفاقها، وحماية الشمال وعاصمته طرابلس من أن يكون امتدادًا لعرسال. إنّ الإخلاص وبحسب قراءة أبداها الخبراء المتابعون يقتضي الدخول في حوار مع الجار الأقرب إلى لبنان وهي سوريا. ذلك أن المدى الجغرافيّ الحدوديّ واحد، وبخاصّة ما بين عرسال وجبال القلمون. وما حدث في شمال حلب قد يتطور ليكشف رؤية استراتيجيّة يحملها هذا التنظيم بإعادة ربط حلب بالبحر مرورًا بحماه وحمص والبقاع الشمالي وعكار وطرابلس... إنّ هذا التنظيم استفاد من تهجير المسيحيين في العراق، ويتوكّأ بدوره على تلك العمليّة الاستثماريّة التي تقودها الولايات الأميركيّة المتحدة، والتي لن تؤول إلى تدميره بل إلى تحجيمه وتقليصه ليبقى مجرد ورقة إرهابية في يد الكبار، وورقة تبقي النزاع المذهبيّ على أوجه. إنّ التلاقي بين الحكومتين اللبنانية والسورية حاجة استراتيجيّة تعيد الاعتبار إلى وثيقة التفاهم والتنسيق السارية المفعول، فينجم عنه حتمًا عمل مشترك يقضي على هذا التنظيم على الحدود اللبنانيّة-السورية ويقف سدًّا منيعًا بوجه التمدد التكفيريّ، ومن شأته في النهاية أن يعبّد الطريق للقضاء الموضوعيّ وليس الموضعي على تنظيم اغتذى من البيئة التي احتضنته، وأحدث الخلل في التوازن الذي نشأ عليه المشرق العربيّ ونما، على الرغم من الجراح المثخنة من فلسطين إلى لبنان والآن سوريا والعراق.

الاعتصام عن الحوار مع سوريا ليس نأيًا للنفس، بل إمعان كبير بالتورط في الصراع بصورة مباشرة أو غير مباشر. في حين أن الحوار يبقى إطلالة جديّة تعي فيها الحكومة اللبنانية مسؤوليتها أمام نفسها ومستقبل وطنها بمؤسساته قبل أن تفترسه أنياب الذئاب الداعشيّة الضارية.