مؤلمٌ، موجع وخطير ما تشهده عرسال، لكنّ الأخطر أنّ الوضع مرشّح لأن يطول، ولأن يضع لبنان برُمّته على كفّ عفريت ويهزّ ركائزه الضعيفة أساساً.

صحيحٌ أنّ سفراء الدوَل الكبرى يوزّعون تطميناتهم في لقاءاتهم المتكرّرة مع المسؤولين اللبنانيين لجهة أنّ انفجار الوضع بشكل واسع ليس مسموحاً، على رغم قلقهم حيال الوضع في عرسال، إلّا أنّ الواقع يشير إلى أنّ تطميناتهم المستمرة منذ العام 2005 لم تمنع انزلاق لبنان إلى الدرك الذي وصل إليه.

أمّا الكلام المعسول لهؤلاء حيال النازحين السوريين وضرورة استقبالهم في لبنان على نطاق واسع وعلى كامل المساحة الجغرافية، وهو ما انخدع به بعض المسؤولين اللبنانيين، فقد ساهمَ في هزّ استقرار البلد وضرب الخريطة الديموغرافية الشديدة الحساسية، ومنها الاستقرار الأمني وربط الساحة اللبنانية كاملةً بالحرب السورية.

تشهد المنطقة تحضيرات لتأمين الائتلافِ الدولي المطلوب لنجاح الحملة العسكرية ضد «داعش»، ائتلافٍ يحمل في طيّاته خريطة المصالح والصورة المستقبلية للمنطقة. ولأنّه من المستحيل أن تنجح هذه الحملة من دون التفاهم مع إيران خصوصاً، ولأنّ لإيران مطالب ومصالح حيوية يرتكز بعضها على حتمية بقاء بشّار الأسد رئيساً لسوريا، فلا بدّ من الاستنتاج أنّ التوصّل إلى تفاهم دوليّ مع إيران حيال الحملة العسكرية المنتظرة سيأخذ بعض الوقت.

وقد عزَّزت هذا الاستنتاج الآراء العسكرية التي تُفضّل انتظار حلول فصل الشتاء، حيث سيساعد «الجنرال صقيع» الائتلاف في نجاح حملته، مع اضطرار مجموعات المتطرّفين لإيجاد أماكن دافئة لها والتجمّع في أماكن محدّدة بدلاً من الانتشار الحاصل حاليّاً، وهو ما سيُعطي فعالية أفضل للحملات الجوّية.

ولهذا الانتظار «فوائد» إقليميّة، حيث تنتظر واشنطن مثلاً سقوط حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل تمهيداً لانتخابات جديدة تؤدّي لتأليف حكومة ائتلافية بزعامة حزب العمل المتفاهم مع الأميركيين على إنجاح مبادرة إنهاء النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني.

وهو ما يعني تزامن هذا المسار مع المسار السياسي الجديد الذي سينبثق عن الحرب ضد «داعش»، لذلك تتمسّك طهران منذ الآن بالإضاءة على كلّ النقاط الملتبسة حيال مستقبل العراق وتقاسم السلطة فيه والنفوذ الميداني، والأهمّ مستقبل الصورة في سوريا ومصير الأسد، وارتباط ذلك بـ»حزب الله».

في انتظار ذلك، يحاول «داعش» تحصين نفسه أكثر في الداخل السوري، ويدخل هجومه على الأكراد في هذا الإطار لناحية تعطيل أيّ دور ميدانيّ لهم ضدّه. وهو من سوريا يُرتّب خططه تجاه لبنان، إن كانت عسكريّة لناحية دفع المقاتلين إلى الداخل اللبناني، أو حتى أمنيّة لناحية تنشيط خلاياه النائمة والتي أضحت مزروعة في كلّ مكان.

وإذا كان الجنرال «صقيع» سيلعب ضدّ مصلحة «داعش» في العراق وسوريا، فإنّه قد يلعب لمصلحته في لبنان. ففي جبال القلمون سيجد «حزب الله» نفسَه مضطراً للانكفاء عسكرياً خلال فصل الشتاء على رغم سيطرته على كلّ القمم الاستراتيجية في هذه المنطقة.

لذلك، تتحضّر مجموعات «داعش» للانسحاب إلى المناطق «الدافئة» نسبياً في عرسال وربّما الفاكهة، ما يعني انتقال مواجهات القلمون إلى داخل البقاع اللبناني. وسيسمح الفراغ الذي سيحصل في القلمون باستخدامه ممرّاً لانتقال مجموعات إضافية من «داعش» إلى البقاع الشمالي عبر القلمون. وهذا ما سيفتح الباب أمام ضربة عسكرية تُنفّذها مجموعات «جبهة النصرة» في البقاع الغربي حيث التنوّع المذهبي يُسيِّل لعابَ هذه المجموعات.

ويبدو الجيش السوري مستنكفاً عن قطع الطريق على «داعش»، خصوصاً في القلمون، ما لم يحصل تنسيق رسمي ومباشر بين الحكومتين اللبنانية والسورية، ومن خلالها بين الجيشين اللبناني والسوري. وتبدو المساعدة السورية هنا مُلِحّة وضرورية.

تماماً كما ترفض دمشق التعاون بالواسطة مع العواصم الغربية حيال تركيبة «داعش»، والأهمّ حيال «مفاتيح» الخلايا التي نشرتها في أوروبا والتي تعرفها بسبب التحقيقات مع كوادر «داعشية» معتقلة، إلّا بعد حصول تواصل مباشر بينها وبين العواصم الغربية وإعادة فتح السفارات الغربية، ما يعني الاعترافَ الرسمي الدولي مجدّداً بشرعية النظام السوري.

من جهته، استعدّ «حزب الله» للاحتمالات العسكرية الأسوأ في البقاع، وهو يتحضّر لشتاء قارس، فيما الجيش الذي سيستقبل قريباً جداً رئيسَ هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي الجنرال مارتن ديمبسي يستعدّ لهذا الشتاء الصعب أيضاً.

فراغ سليمان

وما يزيد من صعوبة الوضع الفراغُ الحاصل على مستوى رئاسة الجمهورية، في ظلّ رهان غير واقعي للبعض على أزمة اليمن، ذلك أنّ هذا البعض يعتقد أنّ التسوية المقبلة حول اليمن بين إيران والسعودية ستفرض حلّاً رئاسياً في لبنان وفق قياسات معينة.

قد لا يكون واقعياً من يسعى إلى ترويج هذا المنطق بهدف إطالة الفراغ ليس أكثر. وقد تظهر الآن السلبيات الناتجة عن الانصراف لتأمين التمديد الرئاسي في الأشهر الأخيرة من عهد الرئيس ميشال سليمان بدلاً من تأمين مناخ حواريّ قادر على إيصال رئيس للجمهورية.

ففي بداية العام 1982 شعرَ الرئيس الياس سركيس بصعوبة الوضع الداخلي، وهو كان يعلم بأنّ إسرائيل تُحضّر لشنّ حربها على لبنان. أقفلَ كلّ النوافذ التي كانت تعرض عليه التمديد، وانصرفَ لتأمين نجاح انتخاب رئيس جديد، ففتحَ أبواب قصر بعبدا ومكاتبَه لحوار صعب بين الزعماء المتناحرين، وعملَ على تدوير الزوايا وإزالة ما أمكنَ من الألغام من درب التواصل اللبناني - اللبناني.

وعلى رغم الحرب التي ضربت لبنان، ساهمَ سركيس بحكمته وتزَهُّده في انتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية، جاعلاً من المستحيل واقعاً ملموساً. وفي مطلع العام 2014 كان العكس يحصل في قصر بعبدا. سعيٌ إلى التمديد بأيّ ثمن بعد دفع خفيّ لتأمين التمديد للمجلس النيابي، ما يفتح الأبواب أمام التمديد الرئاسي، فكانت النتيجة فراغ رئاسي مقلق.

وقبل ذلك، ووفق الحسابات نفسها، نأى الرئيس ميشال سليمان بنفسه عن إيجاد حلّ جدّي وجذري لعرسال. تعاطى مع الوضع في هذه المنطقة وفق حسابات الصفقات السياسية التي تضمن التمديد الرئاسي، فكانت النتيجة كارثة دخلَ فيها كلّ الوطن. وجاءت مكرمة الثلاثة مليارات من السعودية لصالح تسليح الجيش لتدخل في لغط «السمسرات»، فتعطلت، فيما الجيش في أمَسّ الحاجة للتسليح والتجهيز.

يقال إنّ سليمان يحضّر لفيلم وثائقي عن فترة وجوده في قصر بعبدا، إضافةً إلى كتاب في هذا الإطار. ليعلّق أحدُ الخبثاء قائلاً: لن تكون شهادته على الوقائع والأحداث في فترة حكمه أفضلَ من قضيتَي جوازات السفر الفرنسية المزوّرة ومرسوم «منح» الجنسية اللبنانية الذي حمل كثيراً من اللغط والغمز.

والحقيقة أنّه لا بدّ من إنعاش الذاكرة بعض الشيء ليس أكثر.