تشهد المنطقة راهناً فصلاً اخر من فصول العدوان عليها، قد يكون الاكثر خبثا ونفاقا، يتمثل بالادعاء الأميركي بمحاربة الإرهاب وتحشيد ما امكن من اجل ذلك، فأميركا التي سعت الى الإرهاب واعتمدته اداة لتنفيذ مشروعها الامبراطوري الكوني، تأتي اليوم متظاهرة بالتنصل مما اقترفت يداها وتدعي بانها تعمل من اجل انقاذ العالم من شرور الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي ما كانت الا منتجات أميركية.

ومن جميل المفارقات ان يجاهر رئيس المخابرات البريطانية بالقول بان «الغرب كان مذنبا عندما دعم المنظمات الإرهابية واحتضنها وان عليه التعاون مع سورية من اجل القضاء على الإرهاب». وكانت هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، جاهرت هي الاخرى بان أميركا «اخترعت القاعدة» وانها «اخترعت داعش واناطت بها مهام تخدم المصالح الأميركية» وبذلك يتكامل الموقفان الغربيان لتأكيد ما نحن على قناعة مطلقة به، وليتناقضان مع الادعاء الغربي اليوم حول السعي لمحاربة الإرهاب، وهنا يطرح السؤال حول حقيقة الموقف الأميركي وجديته في انشاء تحالف دولي لمحاربة الإرهاب؟ خاصة وان في سلوكيات أميركا الراهنة ما يناقض ادعاءاتها.‏

ففي موقف آخير للكونغرس أميركي، قررت أميركا تدريب وتسليح وتمويل ما اسمته «المعارضة المعتدلة» في سورية بعد ان فتحت السعودية اراضيها لاقامة معسكرات تدريب تستوعب في المرحلة الاولى حوالي خمسة آلاف إرهابي سينشؤن على يد ضباط أميركيين، لاعدادهم للقتال في سورية ضد جيشها وشعبها وسلطاتها الشرعية. هذا هو ما اعلنته أميركا والسعودية وفاخرا به بكل وقاحة. وهنا لا نحتاج الى جهد في الوصول الى حقيقة مفادها ان كل من ينخرط في عملية دعم المسلحين في سورية انما هو يدعم الإرهاب، وفقا لما تنص عليه قواعد القانون الدولي.‏

فسورية دولة ذات سيادة ولها حكومتها الشرعية التي يعترف بها العالم وتحتل بكل جدارة مقعدها في الامم المتحدة وفي كل الهيئات الدولية المتفرعة عنها ولديها السفراء من وفي معظم دول العالم (باستثناء تلك التي انضوت فعليا في جبهة العدوان عليها). ما يعني، في ظل هذا الواقع القانوني للدولة السورية، ان عمل أميركا وعمل السعودية في تدريب الإرهابيين وايفادهم للقتال في سورية يعتبر عملاً إرهابياً عدائياً وبمثابة اعلان حرب على دولة مستقلة، وهنا يطرح السؤال كيف يوفق من يدعي محاربة الإرهاب بين ادعائه ذاك وبين سلوكه الفعلي في تنشئة الإرهابيين؟‏

وفي مشهد آخر، يرى العالم كله كيف ان سورية المعتدى عليها، تواجه العدوان الإرهابي وتخوض معركة دفاعية قاسية على اكثر من موقع ومنطقة، وقد حققت في حربها تلك انجازات هامة جعلت الإرهابيين ييأسون من قدرتهم على تحقيق اهداف العدوان الأميركي على سورية، ورغم ذلك فان أميركا تجاهر برفضها التنسيق مع الجيش العربي السوري رغم انها تعلم ان هذا التنسيق ان حصل، سيكون من شأنه تخفيف المعاناة والاسراع في تحقيق نتائج الحرب على الإرهاب، وهذا الامر مسلم به لدى كل الخبراء والمعنيين بالشأن العسكري والاستراتيجي وما قول رئيس المخابرات البريطانية الا شهادة من اهل البيت الغربي للتعبير عن هذه الحقيقة.‏

ورغم ذلك تصر أميركا على الاحجام عن هذا التنسيق وتدعي انها ستقدم الدعم الناري من الجو لقوى برية تعدها في السعودية وستكون جاهزة للعمل في الميدان بعد سنة، عديدها 5 آلاف ستستخدمهم على كامل المساحة السورية، في خطة تثير السخرية وتعتبر من قبيل الاستعراض والتسويف الذي لن يوصل الا الى منح «داعش» وقتا اضافيا لارتكاب جرائمها.‏

وعلى الصعيد التركي نجد المشهد اكثر فظاظة وفظاعة، فتركيا العضو في الحلف الاطلسي الذي اجتمع في ويلز في بريطانيا مؤخراً وقرر بالاجماع اطلاق الحرب الشاملة على الإرهاب، وطبعا كانت هي بين الموقعين على قرارات الحلف، تركيا هذه تتصرف في الميدان بما يعاكس تماما القرارت التي وقعت عليها، واضافة الى لعبها اليوم دور الداعم واالراعي الرئيسي لـ«داعش» الإرهابية على كل الصعد العسكرية والاقتصادية والاعلامية، فانها وبكل وقاحة وتحت اعين العالم، تقدم لـ«داعش» المساعدة الميدانية التي مكنتها مؤخرا من افساد امن القرى السورية التي يقطنها مواطنون اكراد سوريون، وتسببت بتهجير معظم سكان تلك القرى التي عاث فيها إرهابيو «داعش» فسادا، في عملية اجرامية نفذت في ذات الوقت التي كانت تشارك فيه تركيا بمؤتمرات دولية برعاية أميركية لمحاربة الإرهاب من ويلز الى جدة فباريس ونيريورك.‏

اما فرنسا التي تعرض عضلاتها في العراق في طلعات جوية استعراضية وتدعي انها مع لبنان لمواجهة الإرهاب الذي يهدد امنه وسيادته، فان سلوكها الفعلي وتصرفاتها تغاير ما تعلن، وبدل ان تسارع الى تسليح الجيش اللبناني الذي يواجه خطر الإرهاب بشكل جدي بعد ان باتت المنظمات الإرهابية على ارضه تعتدي على مراكزه وتقتل جنوده او تخطفهم وترتكب الجرائم الوحشية بحق المخطوفين بسادية مقيتة، ورغم علمها بحاجة الجيش اللبناني الملحة للسلاح والذخائر في الحرب التي فرضت عليه، نراها تناور وتماطل وتسوف بالتناغم مع السعودية التي اعلنت عن «مكرمة التسليح»، حتى لا يصل السلاح والذخيرة الى الجيش، رغبة منها في انهياره امام الإرهاب وتمكين التنظيمات الإرهابية من التوسع داخل لبنان على حساب امنه وسيادته، من اجل تطويق المقاومة وترهيب حاضنتها الشعبية.‏

هذا غيض من فيض سلوكيات مكونات «التحالف الدولي» المزعوم لمحاربة داعش وإرهابها، سلوكيات تؤكد ان مواقف تلك المكونات ما هي الا استعراض يريد منه اصحابه الوصول الى اهداف مخفية تشكل حلقات اخرى من سلسلة الاستثمار الغربي في الإرهاب، ونحن على قناعة بان الغرب الذي ابتدع الإرهاب وانتج بيئته واحتضنه، يستمر في هذا السلوك طالما انه مصر على نهجه الاستعماري، الهادف الى مصادرة قرارات الشعوب وثرواتها.‏

ان تظاهر الغرب اليوم بالسعي الى الحرب على الإرهاب هو نفاق واضح يبتغي اصحابه خداع المتضررين بالإرهاب وحضهم على الاسترخاء بما يمكن الإرهابيين من تنفيذ المزيد من الجرائم وتحقيق اهداف الغرب في الميدان.لكن شعوب المنطقة التي تكتوي بنار الإرهاب اليوم تعرف انها هي الضحية وان العبء في المواجهة الرئيسية يقع عليها ولهذا نراها تتصدى للإرهاب بكل ما لديها من قوة، بدءا بسورية، والعراق ثم لبنان الذي وجد نفسه مرغما على ذلك.‏

وبين هذا وذاك تشكل على المسرح فريقان: كتلة المتضررين من الإرهاب وكتلة رعاة الإرهاب والمستثمرين فيه. الاولى تواجهه بجدية بكل الوسائل المتاحة، والثانية تدعي زورا مواجهته وتقوم بحرب اعلامية استعراضية مطعمة ببعض الحقنات والجرعات النارية لحجب المناورات الخادعة. ما يعني استبعاد اي لقاء جدي بين الفريقين وان تقاطعت المصالح لحظة ما عند استهداف موقع إرهابي بنار غربية فالتقاطع يكون عابرا لا يغير من جوهر الاشياء، لان المنطق يفرض التنافر بين من يريد اجتثاث الإرهاب وانقاذ البلاد والعباد من شروره، وبين من يستثمر بالإرهاب ويمكنه من نشر سوئه وفساده.‏

هذه الحقيقة توجب الحذر والتنبه وعدم المراهنة مطلقا على التحلف الدولي الأميركي المزيف الذي غايته البعيدة سحب البساط من تحت ارجل المقاتلين الحقيقين للإرهاب ومنعهم من استثمار انجازاتهم التي تحققت خاصة في سورية وفقا للاستراتيجية الواقعية التي ظهرت مفاعيلها الايجابية بوضوح ما ادى الى احتواء الهجوم الإرهابي والتطهير المتدرج للكثير من المناطق وفقا لجدول اولويات يأخذ بالاعتبار طبيعة الحرب المفروضة وقدرات العدو الظاهر والعدو المستتر.‏

لقد لجأت سورية الى استراتيجيتها تلك بعد ان ادركت ان العدو يريد ان يقتادها الى حرب استنزاف يقضم خلالها قواها فيرهقها ويدفع اهلها الى اليأس فالاستسلام، فواجهت تلك الخطة الشيطانة ونجحت في اجهاضها وهذا ما اغاض العدو ودفعه لتشكيل تحالفه المزيف.‏

و في لبنان يبدو ان البعض استفاق مؤخرا على ما يحاك له واضطر الجيش بعد ما مني به من خسائر ان يفتح ناره على الإرهابيين بشكل مؤلم في عرسال وجرودها، والامر ذاته يحدث في العراق منذ مسرحية الموصل الداعشية، حيث ان قوات الحشد الشعبي تعمل الى جانب بعض قطعات الجيش العراقي في مهمة مماثلة.‏

ان المتضررين من الإرهاب الغربي المنشأ والقيادة، ملزمون بمواصلة حربهم القاسية ضده دون الاتكال على الاخرين وتحالفاتهم المزيفة، وملزمون بالاستمرار في هذه الحرب التي باتت تشمل العراق ولبنان اضافة الى سورية، ما يفرض على هذه البلدان الثلاثة ومعها حلفائها وفي طليعتهم ايران وروسيا، اعتماد خطة محكمة وتنسيق جدي في الميدان، لان «أهل مكة أدرى بشعابها» دون ان يغفلوا القاعدة الذهبية بأن «الأمن الوطني لا يتحقق الا اذا كان جزءا من امني اقليمي وقومي شامل»، اما الظن بان أميركا ستنقذ المنطقة من الإرهاب الذي رعته، فانه ظن يقود الى الانتحار ويمكن أميركا من تحقيق ما عجزت عنه خلال العقدين الماضيين.‏