ليس سهلاً على لبنان بعد كلّ العواصف العاتية التي هبّت عليه من كلّ الاتجاهات امتصاص حروب واجترارها، وقد خبر آلامها وأوصابها، واكتوى بنيرانها لسنوات طوال عجاف، وقد جعلت أرضه في يباب وجفاف. فهل هو على استعداد لانفجارها وهل أيضًا يملك القدرة لاحتمالها بهذا الاحتشاد المذهبيّ تنفجر مفرداته السوداء من جديد بمكوّناته في زمن بركانيّ تتدحرج حممه من العراق إلى سوريا وإلينا؟

المشهد الحاليّ هو مشهد احتراب، أو بداءة احتراب، ذلك أنّ ما حصل في بلدة الخريبة في البقاع الشماليّ سواء جاء الحدث نتيجة خطأ أو نتيجة اعتداء، كشف، بلا التباس، العقم الذي بات عليه المدى اللبنانيّ. هو عقم مديد ومتراكم، مديد لأن التاريخ اللبنانيّ تاريخ حرب موصول بالواقع المعيش، ومتراكم لأنّ الداخل يحيا بإملاءات خارجية تفاعلت على أرضه بصراع بدا أبعد من صراع المصالح، ليغدو صراع مفاهيم متماه بصراع أمميّ يستهلك لبنان كما يستهلك سوريا والعراق، وهو متفاعل على أرض الخليج من اليمن إلى البحرين.

البيئة الحالية لا تبشّر بالخير من البقاع الشماليّ إلى طرابلس، بيئة تراكمت فيها الألغام المزروعة للانفجار. خطف للعسكريين وخطف على الهويّة وذبح واعتداءات... كلّها علامات سوداء تمعن التنظيمات التكفيريّة من جبهة نصرة إلى تنظيم داعش على جعلها مكنونة في سياقنا السياسيّ والأمنيّ، حيث تفرز من خلالها مجموعة ردود فعل تأخذنا إلى مصير مجهول. فردود الفعل وإن جاءت وجدانيّة، وهذا طبيعيّ في حالة الأهل والناس والمجتمع، غير أنّها تشي بتفكّك مقيت في بنية الدولة اللبنانيّة غير القادرة على الإمساك الموضوعيّ بالأمن في البقاع وغيره، ممّا ينذر بإمكانيّة تدهور الوضع تمامًا كما حصل في بداية الحرب اللبنانيّة. فالدولة كما هو واضح لا تملك القدرة على الدخول الجديّ في معركة حقيقيّة تحقّق رجاء اللبنانيين بالغلبة على تنظيم يحترف القتل بوحشيّة مطلقة، ويضغط بها باتجاه التفكّك. فبدلاً من المواجهة قرّرت التفاوض غير المباشر بواسطة قطر وتركيا الداعمين لهؤلاء. وأعطت الانطباع بالعطب والهشاشة، وهما مصدران كبيران لاندلاع الحروب. فالعطب فيها، إذ ليس من اتفاق جوهريّ على المعالجة الفعليّة بوجود فرقاء يُعتقد أنّهم لا يزالون يتحرّكون من موقع أنّهم البيئة الحاضنة لمصالح داخليّة بحتة، ولو حاول بعضهم الإنكار. فلو امتلكت القدرة الناتجة من اتفاق سياسيّ لكانت أخذت المبادرة بعدم التفاوض بل بالمواجهة، ودعمتها بالحوار مع سوريا لكون لبنان وسوريا معنيين بهذه المواجهة.

رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط في جولته في قرى راشيّا وقبلها في الجبل حذّر من أن نكون على مشارف حرب مذهبية، ودعا إلى عدم المساومة مع الإرهابيين على حساب العسكريين، وهو بهذا الموقف تلازم مع موقف واضح لـ"حزب الله" دعا إلى مواجهة الإرهاببين كرجل واحد. المجتمع السياسيّ اللبنانيّ بأطيافه مجمع على ضرورة المواجهة مع الإرهابيين. وليد جنبلاط، رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، رئيس تيار "المرده" النائب سليمان فرنجية، رئيس حزب "الكتائب" أمين الجميل، "حزب الله"، "تيار المستقبل" ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع... الجميع دان الإرهاب وانغراسه في البيئة اللبنانيّة. ألا يفترض أن يتحوّل هذا الإجماع من القول والتوصيف ويتجسّد فعلاً بدعم الجيش اللبنانيّ والإمساك بالدولة من مضمون التماسك الوطنيّ طالما أنّ العدوّ واحد بحسب تحديد وليد جنبلاط المحقّ؟ ألا تفترض موضوعيّة المواجهة أن نصير جسدًا واحدًا من أجل لبنان وديمومته وتوازن مكوناته، في لحظات الشدّة والخوف، وفيها نعاني من سكرات الموت والوجع؟

يزيّن لكثيرين من الخبراء المتابعين، بأنّ الاتفاق في التوصيف شكليّ محض. ذلك أن ليس كل ما يقال يعبّر عن اختلاجات النفوس ودواخل القلوب ورؤى العقول. ليس من إجماع مطلق على مركزية الدولة في المواجهة مع هؤلاء، وإلاّ لكان الجيش أكمل في معركته وجعلنا نذوق النصر كما في عبرا ونهر البارد. وعدم الإجماع تعزوه بعض المصادر إلى كون الأفرقاء السياسيين باتوا جزءًا من الصراع السعوديّ-الإيرانيّ المتفاقم في اليمن صراعاتٍ بين مكونات هذا البلد، فلمَ لا ينساب هذا الصراع في العمق اللبنانيّ بعد استبعاد إيران من لقاء جدّة الأخير؟

لبنان مقبل على حالة الحرب هذه في ظلّ فراغ قاتل، وتفكّك الدولة، وعدم وضوح أيّ اتفاق سياسيّ في تجسيد المواجهة بمعيار واحد وبالتعاون مع سوريا إذ للبنان الدولة والكيان مصلحة بذلك. لبنان مقبل على هذا الوضع، لأنّه في وسط صراع سعوديّ-إيرانيّ مستجدّ بعدما أعاد اللقاء في جدّة الأوضاع إلى المربع الأوّل، وهو في وسط محور قطريّ-تركيّ وأميركيّ-سعوديّ، مبثوث في الأوراق الإسلامية واستثمارها، والخلاف على بقائها على ماهيتها لمصلحة قطر وتركيا التائقة لنيو-عثمانيّة جديدة تستمدد التاريخ، أو تحجيمها لمصلحة السعوديّة لتظل محور دول الخليج بمطلّها على دول المشرق العربيّ واستمرار استثمارها للأوراق فيها كمدى للانوجاد التاريخيّ في ترسيم بعض الخطوط وانبلاج لبعض الرؤى الخاصّة بها.

أكثر من ذلك، كلّ الدلائل أشارت إلى أنّ الأرض اللبنانيّة خصبة له، بسبب عمق الفجوات وتداعياتها الخطيرة وتراكمها الكميّ. فالأسباب الموجبة السلبيّة رحم لانفجارها في أيّ لحظة ينفخ فيها البوق. تكشف مقارنة بسيطة بين بدء الحرب في 13 نيسان 1975، والواقع الراهن، إلا أنّ الحرب آنذاك والتي انتهت بعد مخاض يسير باتفاق الطائف التسوويّ، أرست قواعد سياسيّة بنيويّة أخلّت بالتوازن القائم على الميثاق، وأبطلت عمق المناصفة الفعليّة، وأبقت المدى اللبنانيّ جزءًا من أزمات الدول. غير أنّ الواقع الراهن، بات خاليًا من القواعد والرؤى بسبب الخلل في موازين القوى في الشرق الأوسط بوجود تلك القوى التكفيريّة المهيمنة. وهذا عينًا ما قد يقود إلى انبلاج خطوط جديدة لن تكون لمصلحة المكونات الأساسيّة وبخاصّة المسيحيين منهم. فاللافت هنا وبحسب المعلومات المنشورة من بعض الدوائر، بأنّ الغرب يشاء البقاء على الورقة الإرهابيّة لكي تبقى دول المشرق من سوريا والعراق ولبنان أسيرة الحروب المذهبيّة بين السنّة والشيعة، وهي مصدر للنزيف المسيحيّ من الداخل إلى الخارج، فلا غرو إذا ما تهجّر مسيحيو العراق وسوريا ولبنان إلى فرنسا وألمانيا وغيرها من الدول، إذ إنّ تلك الدول بحاجة إليهم لإرساء بعض التوازن هناك مع المسلمين الجزائريين والمغاربة والتونسيين، ولأسباب تاريخيّة تعود إلى علاقة الغرب الاستعماريّة بالشرق.

هذا هو المعنى لعودة لبنان إلى الاحتراب الداخليّ. تلك هي الأسباب الموجبة التي تبقيه أسيرًا لمفرداتها، وتجعل أرضه محترقة بنيرانها، وأبناءه طعامًا لأفواهها. لن ينجو لبنان من أنيابها، في ظلّ عدم الاتفاق الجوهريّ على بقائه متوازنًا بمكوّناته، قويًّا بدولته وجيشه، متفاعلاً بسيادته وكرامته، يملك القدرة للتفاوض مع من يشاء بعيدًا عن الانصهار في صراع المحاور على أرضه.

أمر واحد قد ينقذ لبنان، هو الاتفاق الضروريّ على انتخاب رئيس للجمهوريّة قويّ يمثّل بيئته، ويتلاقى مع رئيس للمجلس النيابيّ يمثّل بدوره بيئته، ومع رئيس للحكومة يمثّل بدوره بيئته. إنّ الولوج إلى هذه الرؤى ضروريّ، وهو نفسه ينطبق على قيم المواجهة وعمقها بإرساء اتفاق داخليّ يتمّ بموجبه القضاء على الإرهاب قبل أن يقضي علينا ويرمينا في جحيم الموت وظلاله.

إن توافق القوى السياسيّة الأساسيّة، بات ضروريًّا في ظلّ تلك الظروف الدقيقة والخطيرة بإخلاص كامل لحقيقة لبنان وجوهره ودوره، وإلاّ فإنّ المصير سيكون الرماد المطلق.