ليست المرّة الأولى التي يواجه فيها ​الجيش اللبناني​ المؤامرات التي تُحاك ضده، إن من الخارج أو الأخطر والأهم من الداخل، والمفهوم في تعبير "من الداخل" هو السلطة السياسية التي تعود إليها مرجعية الجيش في ما بات يعرف بـ"الضوء الأخضر"، أي بمعنى آخر، يكون الجيش اللبناني مقيّداً في تحركاته وخطواته حتى تعطيه السلطة السياسية "الضوء الأخضر" للتحرك.

هكذا، كان الجيش اللبناني "رهينة" بيد السلطة السياسية اللبنانية منذ سنوات ما قبل الحرب اللبنانية وحتى اليوم، وقد أدّت هذه السياسات إلى تقويض قوة الجيش وهيبته، و"تشتيت" الدولة. يريدون الجيش ميليشيات، ليصبح لبنان لبنانات، فمن دون الجيش تسهل الفوضى ويسود التسيّب ويعود "الزعران" الى الشوارع تحت شعار "حارة كل من ايدو الو".

وبعد تقسيم لبنان في الماضي، وتقسيم الجيش وما تبعه من تداعيات مخيفة، فتحت شهية البعض على العودة إلى "الزمن الجميل" بالنسبة إليهم، الذي يؤمّن لهم ما تعجز عن تأمينه أيام السلم وسيطرة الجيش اللبناني على الأوضاع الامنية.

وكي لا نعود إلى الماضي، يكفي أن نتطلع سريعاً إلى كيفية استهداف الجيش داخلياً في الآونة الاخيرة:

- سياسة "الضوء الاخضر" التي تمنحها السلطة السياسية للجيش عند كل استحقاق، تبقى حبراً على ورق وكلمات في الهواء، فعند أيّ مواجهة عسكرية، "تنفض" هذه السلطة يدها من الجيش بدل أن تكون خط الدفاع الأول عنه لأنه يمتثل لأوامرها أولاً.

وعندما يتحرّك الجيش على أساس "الضوء الأخضر" الممنوح له، تأتي تفسيرات السياسيين للقرار السياسي واضحة بما معناه: نترك للجيش حكمة تقدير الموقف والتصرف على أساسه، أي بطريقة غير مباشرة، الطلب من الجيش إعادة النظر بتحركه العسكري، وإنّ اللبيب من الاشارة يفهم، ويصدف أنّ الجيش لبيب أكثر من اللازم.

- الوقوف دائماً في وجه تحسين الرواتب والحوافز المالية للجيش، إذ فجأة يحضر العجز وتعلو الاصوات المندّدة بأيّ خطوة في هذا المجال، مع العلم أنّ العسكري يضع حياته على يده، وليس على غرار دول أخرى في منطقتنا حيث يفيض المال عن العسكري دون حاجته إلى القتال أو حتى إلى المواجهة مع أحد...

- منع تزويد الجيش بالسلاح اللازم، والحجج كثيرة وباتت معروفة ولن نعددها، ولكن يكفي التذكير بما حصل في كل مواجهة كبيرة خاضها الجيش (ومنها نهر البارد، عبرا، عرسال...) حيث كانت الذخيرة تنفد أو على وشك أن تنفد.

- التطاول على الجيش من قبل سياسيين وحتى بعض النواب، فهم يسايرون الجيش حين يقوم بمهمة يرونها ضمن مصالحهم، ويعادونه بشدة حين تكون المهمة لغير مصالحهم، حتى تصل بهم "الوقاحة" إلى الدعوة للتصدي للجيش أو عدم تلبية العسكريين للاوامر!

- كثرة الاعتداءات على الجيش في أكثر من منطقة، إلى أن وصل الامر إلى حد خطف عسكريين... فهل هناك أفظع من هذا الموقف؟ دولة يُسمح فيها لمسلحين خارجين عن القانون وعن الانسانية بخطف عسكريين بعد أن نكلوا بشهداء لا تقدر تضحياتهم بثمن، لا بل يفرضون شروطاً للقبول بالتفاوض، وهي وقاحة ما بعدها وقاحة.

- الضغط على الجيش معنوياً وميدانياً، من خلال بعض العمليات الامنية بحيث يضطر الجيش الى التواجد في أكثر من بقعة في الوقت نفسه فتتشتت قوته. ويتضمن هذا الشق العمليات الامنية والتفجيرات والمظاهرات والتحركات وقطع الطرق...

وللتذكير فقط، يتولى الجيش اللبناني معالجة كلّ هذه الأوضاع والتطورات، إذ إنه لا يتولى فقط المهمات العسكرية العسيرة، بل حتى أبسط مشكلة تحصل في أيّ منطقة.

كلّ هذه الأمور وغيرها الكثير، هي سياسات غير جديدة، ولكنها بدأت تؤتي ثمارها للاسف. اذ بعد كل ما تعرض له الجيش في الآونة الاخيرة، يسأل كل من يرغب في الانتساب اليه عما سيؤول مستقبله وحياته اذا انضم الى المؤسسة العسكرية، فمن يحميه؟

الهدف واضح، وهو محاولة ادخال مفهوم بسيط قوامه أنّ الطائفة أهمّ من الجيش، فالطائفة للاسف يمكنها حماية من ينتمي اليها، لأنّ التعرض لمواطن من الطائفة الشيعية أو السنيّة أو المسيحية من شأنه أن يقلب الاوضاع رأساً على عقب، في حين أنّ بذلة الجيش لا طائفة لها سوى لبنان. وبفضل هذه المؤامرات، يحاول المتآمرون أن يُظهروا أنّ الطائفة أفضل وأنسب من الانتماء الى الجيش، وهذا من شأنه أن يعيث الفوضى في لبنان من خلال الأمن الذاتي وعودة الميليشيات.

نحمد الرب على أنّ "المظلة الدولية" لا تزال تمنع حصول السيناريو الاسوأ في لبنان، وإلا لكانت السلطة السياسية وبعض القوى المحلية أمعنت في غرز السكين في جسد الجيش اللبناني، فالفيتو الدولي على الفوضى العسكرية في لبنان لا يزال حياً، و"الخضات الامنية" التي تحصل لن ترتقي الى سقف الفوضى العامة، ولكن الحذر واجب. فالفارق بين الفوضى المدروسة والفوضى العامة خيط رفيع قد ينقطع، فما الذي سيحصل عندها؟

فليُترك للجيش حرية التصرف بالقول والفعل وليكن مسؤولاً عن تصرفاته لأنه على قدر المسؤولية وقد أثبت ذلك في أكثر من مناسبة ولا يحتاج إلى امتحانات جديدة، فعناصره لا مثال لهم عندما يتعلق الامر بالشرف والتضحية والوفاء.

أعطوا ما للسياسة للسياسة، وما للجيش للجيش.