تُدرك الإدارة الأميركية أنّ الغارات الجويّة لا تقضي على تنظيم "داعش"، مهما كانت كثيفة، ومهما تنوّعت هويّة الدول المشاركة فيها، خاصة وأنّ مقاتلي التنظيم الإرهابي باشروا باعتماد أساليب جديدة تقيهم من الغارات، منها على سبيل المثال لا الحصر إخلاء المقرّات الرئيسة التابعة لهم، وعدم التجمّع بأعداد كبيرة في أماكن مكشوفة، وإعتماد أساليب غير تقليديّة للتنقّل على غرار الدرّاجات النارية، إلى آخره. وتُدرك الإدارة الأميركية أنّ كلفّة عملياتها العسكرية المُرتقبة ستكون باهظة، حيث بلغت تكاليف العمليّات المحدودة التي نفّذتها منذ 26 آب الماضي حتى تاريخه نحو 7,5 مليون دولار أميركي في اليوم الواحد بمعدّل عام، وهي تكاليف الطلعات الجويّة وصواريخ جوّ-أرض، والوحدات اللوجستية البحرية والجويّة المُنسّقة للعمليات الحربيّة، والخبراء الميدانيّين وعملاء الإستخبارات الذين يُساعدون القيادات المركزيّة على تحديد الأهداف التي يجب قصفها، إلى آخره. وهذا الرقم اليومي يعني أنّ الإدارة الأميركية تحتاج إلى نحو 2,7 مليار دولار أميركي لسنة واحدة من الهجمات الصاروخية، في حال بقاء وتيرة العمليات مشابهة لما هي اليوم، علماً أنّ كل التحليلات تتوقّع رفع هذه الوتيرة قريباً.

ولمّا كانت الولايات المتحدة الأميركية غير مُستعدّة إطلاقاً لتبذير الأموال في الغارات الجويّة لتدمير "بيك آب" مزوّد بمدفع مُضاد هنا، وجيب مسروق هناك، ولقتل بضعة عناصر من "داعش" هنالك، فهي تجهد حالياً، وبعد أن حصلت على غطاء سياسي جزئي لحربها على تنظيم "الدولة الإسلامية"، لإيجاد الجهة أو الجهات المستعدّة لتمويل الحرب المرتقبة، والأهم لإيجاد القوى البرّية التي يجب أن تُسيطر على المناطق التي ستخسرها ميليشيات "داعش" بفعل القصف الجوي. وبالنسبة إلى التمويل، فهو سيكون من المملكة العربيّة السعوديّة بالدرجة الأولى، مع تقاسم التكاليف بين "قوى التحالف" بالدرجة الثانية، وحلّ هذه المسألة ليس مُستحيلاً. وبالتالي، تنحصر المُشكلة الأساسية في الحاجة الماسة إلى مقاتلين على الأرض لمحاربة "داعش" في سوريا والعراق، باعتبار أنّ أيّا من دول التحالف لم يُعلن صراحة موافقته على هكذا خطوة، وباعتبار أنّ قدرة ما مجموعه 1600 جندي وخبير عسكري أميركي توجّهوا مُجدداً إلى العراق بالكاد تكفي لإنجاز مهمّة التنسيق والإدارة اللوجستية والحماية الذاتية المناطة بهم. والخيارات المُحتملة لمقاتلة "داعش" محدودة جداً كونها لا يُمكن أن تشمل إيران مثلاً لاعتبارات مختلفة، أهمّها رفض السعودية دخول الجيش الإيراني إلى العراق، وعدم قدرة واشنطن على الإستعانة بقوّات شيعيّة بمواجهة التنظيمات الأصولية السنّية، لأنّ هذا الأمر يُفقدها التمويل المؤمّن من دول سنّية، ويحوّل الحرب المرتقبة من حرب على الإرهاب إلى حرب مذهبيّة بحت. ومن يظنّ أنّ إجتماع كل من وزيري الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والسعودي سعود الفيصل في نيويورك، سيفضي قريباً عن خطة مشتركة لمواجهة خطر تنظيم "الدولة الإسلامية"-كما تردّد إعلامياً، سيَكتشف في الأيام المقبلة أنّ الإجتماع تركّز على ترتيب المواجهة غير المباشرة بين الطرفين في أكثر من موقع ومكان، خاصة في الساحة اليمنيّة المتأرجحة بين خياري الحرب الأهليّة وتقاسم السلطة، على الرغم من التطوّرات العسكرية المتلاحقة التي أفضت إلى الرضوخ لمطالب الحوثيّين. كما أنّ إستبعاد خيار المقاتلين الشيعة بمواجهة إرهابيّي "داعش"، يُضعف خيار اللجوء إلى الجيش العراقي الجديد الذي لا نيّة غربيّة جدّية في تسليحه أصلاً، كونه واقعاً بالقبضة الإيرانية. ولمّا كان الجيشان الأردني والكويتي بالكاد قادرين على حماية دولتيهما، تنحصر الخيارات المتوفّرة نظرياً للتدخّل الميداني في العراق بقوات البشمركة الكردية التي أظهرت المعارك محدوديّة قدراتها القتالية، وكذلك بالجيش السعودي الذي من غير الوارد تورّطه في الحرب ضد "داعش" هناك، لاعتبارات مشابهة لتلك التي تحول دون التدخّل الإيراني، لكن من موقع معاكس.

وفي ما خصّ مواجهة ميليشيات "داعش" في سوريا، فمع إستبعاد لبنان والأردن نظراً إلى فقدان القدرة الميدانية والرغبة في التدخّل، يتقدّم الخيار التركي إلى الواجهة. لكن أنقره ترفض أيّ تدخّل واسع في النزاع السوري، علماً أنّها مُتّهمة أصلاً بتسهيل مرور العديد والعتاد لتنظيم "الدولة الإسلامية". والأكيد أنّ أيّ تدخّل ميداني لها لن يتجاوز إقامة نوع من الحزام العازل، للنأي بأراضيها عن المواجهات القائمة وإرتداداتها. وما تبقّى من ألوية موحّدة في الجيش السوري النظامي غير معنيّة بالخطة الأميركية نتيجة تضارب المصالح مع النظام السوري، وطغيان الطابع المذهبي للإنقسامات. وبالطبع إنّ تخصيص 500 مليون دولار أميركي لتسليح وتدريب مقاتلين من المعارضة السورية هو إجراء إستعراضي، وموافقة السعودية على إستضافة نحو 5000 مقاتل من "الجيش السوري الحُر" في مخيّمات داخل أراضيها، لتدريبهم وتسليحهم، تمهيداً لعودتهم إلى سوريا للقتال هناك، لن يُبدّل شيئاً في الواقع الميداني، إلا في حال إستُتبع هذا الإجراء الأوّلي، بمخيّمات ثانية وثالثة... لكن في هذه الحال، وإضافة إلى فترة المراوحة الطويلة التي سيستغرقها إعداد مجموعات قتالية مُنظّمة، والكلفة العالية المرتقبة لتدريبها وتسليحها، ستُصبح السعودية في موقع المواجهة المباشرة مع سوريا ومن يدعمها، بعد أن كانت في موقع المتّهمة من خصومها بالتدخّل بشكل غير مباشر بالنزاع. وعندها، ستُصبح معارك اليمن مُجرّد نموذج مُصغّر لما يُمكن أن يحدث في أكثر من مكان عربي وخليجي، لأنّ كلّ الضوابط الحالية للنزاع السياسي-المذهبي ستسقط وتتلاشى، لتنزلق المنطقة ككل إلى مواجهات حامية إنطلاقاً من مبدأ "يا قاتل... يا مقتول!".

وفي الختام، وحتى اليوم لا إمكانية للقضاء على تنظيم "داعش" في المدى المنظور، الأمر الذي يُمكن تلمّسه أصلاً من تصريحات كبار المسؤولين الغربيّين الذين يُشكّلون رأس حربة في خطة الحرب على مسلّحي تنظيم "الدولة الإسلامية". وما سيجري هو مجرّد إحتواء لخطرها، ومحاولات لحصره في أماكن مُحدّدة، بموازاة محاولات لتوجيهه إلى أماكن معيّنة أخرى، على أمل إستخدامه كورقة ضغط ومساومة في العديد من الملفّات المفتوحة في الشرق الأوسط، والتي وصل بعضها إلى خواتمه.