في لبنان، لم تعد دماء حماة الوطن تؤثر على السياسيين، الذين قد يتكرّمون على أهالي الشهداء بـ"الأسف" في أفضل الأحوال، قبل أن يواصلوا "نشاطهم اليومي" وكأنّ شيئًا لم يكن..

في لبنان، يسقط شهداء للجيش اللبناني، ضحية "إرهاب" من هنا أو "تقاعس" و"إهمال" من هناك، والسلطة السياسية لا تشعر بأيّ "إحراج"، بل إنّ "رموزها" لا يتوانون عن الخروج بتصريحاتٍ واتهاماتٍ ومزايداتٍ قبل أن تجفّ الدماء..

الخطاب السياسي لا يتأثر..

يوم الجمعة، سقط شهيدان للجيش اللبناني في انفجارٍ استهدف آليتهما في بلدة عرسال، ومساء اليوم نفسه كان شهيدٌ آخر يسقط على يد "جبهة النصرة"، التي لم يتردّد بعض اللبنانيين في وصفها يومًا بـ"المعتدلة" بخلاف أختها "داعش"، جريمة تأكدت في اليوم التالي حين نشرت الجبهة شريط فيديو تُظهر فيه إعدام محمّد حمية بالرصاص وتهديد زميله علي البزال بأنه سيكون "التالي" على لائحة "من سيدفع الثمن؟"

علي الخراط، محمد ضاهر ومحمد حمية ثلاثة شهداء جُدُد سقطوا فداءً للوطن، كلّ الوطن، فيما رموز هذا الوطن منهمكون بخلافاتهم وسجالاتهم التي لا تنتهي. دماؤهم لم توحّد المكوّنات السياسية في لبنان، على اختلافها وتنوّعها، تمامًا كما لم يوحّدها الخطر الجاسم فوق رقابها جميعًا والذي يتهدّد لبنان الكيان بكلّ ما للكلمة من معنى، فبقي الخطاب السياسي على حاله، دون أيّ تعديلٍ يُذكَر.

هكذا، أمكن رصد سلسلةٍ من المواقف "الاستعراضية" لسياسيين من مختلف الأفرقاء لا يمكن إدراجها إلا في سياق "المزايدات" التي لا تسمن ولا تغني. بينهم من تمسّك بمقولة أنّ "حزب الله" هو من استجلب "داعش وأخواتها" إلى الداخل وأنه المسؤول عن كلّ ما يحصل، وبينهم في المقابل من حرص على تكرار نغمة "البيئة الحاضنة للإرهاب" التي أحدثها فريق معيّن يتحمّل بالتالي مسؤولية تفاقم الأوضاع، وبين الاثنين من فضّل توجيه السهام لقيادة الجيش انطلاقاً من حسابات "انتخابية" مرتبطة باستحقاقاتٍ سياسية، ومن حرص على رفع شعارات "لا للمقايضة ولا للتفاوض"، غير آبهٍ بمشاعر الأهالي.

لا غرابة في الموضوع

لا تستغرب مصادر سياسية متابعة هذه المواقف، وهي لا تصفها بـ"الظاهرة" ولا تعتبرها غريبة أو عجيبة. برأيها، العكس هو الصحيح، "فلو أنّ السياسيين ضبطوا أنفسهم وتوحّدوا، لكان الأمر مستغرَبًا بل أشبه بمسرحية أو تمثيلية"، تقول المصادر، موضحة أنّ ما يحصل يأتي في سياقه الطبيعي ومنسجمًا تمام الانسجام مع سيرة هؤلاء السياسيين الذاتية.

وتعتبر المصادر أنّ المكوّنات السياسية اللبنانية تتفق على شعارٍ واحدٍ ترفعه في كلّ الأزمات، وهو "المصالح أولاً". من هنا، فإنّ كلّ تصريح يخرج به ممثلو الأمّة مدروسٌ ويصبّ في خانة تحقيق المكاسب بشكلٍ أو بآخر. ولأنّ الخطابات العاطفية لم تعد تكفي، لا بدّ دائمًا من رفع الأسقف تجاه "الخصوم" باعتبار أنّ "هذا ما يريده الجمهور"، الجمهور الذي يتحمّل هؤلاء أنفسهم مسؤولية تعبئته وتجييشه مذهبياً طيلة السنوات الأخيرة، خصوصًا في أعقاب جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وما تبعها من أحداث وتطورات خلطت كلّ الأوراق في الداخل.

وتشير المصادر إلى أنّ الاستحقاقات السياسية الداهمة تبقى "أولوية الأولويات" بالنسبة لهذه الأطراف، خصوصًا في ضوء الغموض الذي لا يزال يحيط ب​الانتخابات الرئاسية​ وكذلك النيابية طالما أنّ التمديد لم يُحسَم بعد. "بعض الأفرقاء لا يقومون اليوم بأيّ تحرّك إلا بخلفياتٍ انتخابية بحتة، وكلّ همّها إحراق أوراقٍ هنا وتعزيز فرصٍ هناك"، تقول المصادر. هي لا تنكر أنّ "التغريد خارج السرب" قد يضرّ بهذه الأحزاب في نهاية المطاف، لكنها تقول أنّهم "يلعبونها بذكاء"، بمعنى أنّهم لا يلغون الخطاب العاطفي بالمطلق، ولكنهم يوظّفونه لمصلحتهم عبر رمي كرة المسؤولية في ملعب "الخصوم".

لسنا بحاجة لشهادة في الوطنية!

هو "احتيالٌ" إذًا تمارسه الطبقة السياسية بحثاً عن مكاسب قد يصفها البعض بـ"المشروعة"، ولكنّ هذه "التهمة" تبدو "مرفوضة" من قبل قوى الثامن والرابع عشر من آذار على حدّ سواء، التي تتفق مصادرها على "الترفع" عن "الردّ" على هذه الاتهامات، باعتبارها "لا تستحق التعليق أصلاً".

وفي مفارقةٍ غير مستغرَبة، يتوحّد "خطاب الرد" عند الطرفين، وتصبح العبارات المستخدَمة من قبلهما "متشابهة" لحدّ "الاستنساخ"، من قبيل "لسنا بحاجة لشهادةٍ في الوطنية من أحد"، و"ما نقدّمه للجيش من دعمٍ لا يسبقنا إليه أحد"، و"تاريخنا الناصع هو الردّ الأمثل"، دون أن ننسى معزوفة "من يجب أن توجَّه له هذه الاتهامات هو الطرف الآخر".

وهنا، لكلّ فريقٍ دوافعه ومبرّراته، فالمصادر المحسوبة على قوى الرابع عشر من آذار تحرص على القول أنّها لطالما وقفت خلف الجيش والقوى الأمنية، وهي التي نادت ولا تزال تنادي بحصر السلاح بيد هذه الأجهزة الشرعية. ترفض ما يُقال بأنها أصلاً "احتضنت" المنظمات الإرهابية أو دافعت عنها، وتقول أنّ مناصرتها للثورة في سوريا موقفٌ مبدئي لن تحيد عنه، لكنه لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال دعمها لتنظيماتٍ إرهابية شوّهت وتشوّه صورة هذه الثورة عن سابق تصوّرٍ وتصميم. في المقابل، تشدّد مصادر قوى الثامن من آذار على أنّ الوقائع الميدانية تثبت أنها من كان دائمًا في صف الجيش والقوى الأمنية، وأنها من وظّفت كلّ إمكانياتها في سبيل دعمه، فيما كان الفريق الآخر يبرّر للإرهاب ويرفض إعطاء أيّ ضوءٍ أخضر للجيش متذرّعًا بحساسياتٍ هنا وهناك، كما أنّ مواقف بعض نواب هذا الفريق ممّن يمكن وصفهم بـ"الداعشيين" لم تعد خافية على أحد.

ولكن هل الوقت الآن مناسبٌ لمثل هذه الحسابات والاتهامات؟ وهل هكذا يكون دعم الجيش؟ تقول مصادر الفريقين أنّ وحدة الموقف مطلوبة، ولكنها مشروطة بأن تكون جادة، لا تكون محصورة بالشعارات التي لا تجد ترجمة لها على أرض الواقع. تقول مصادر قوى الرابع عشر من آذار أنّ نبذ الإرهاب لا يكتمل دون الإضاءة على "مسبّبات" هذا الإرهاب، وبالتالي فإنّ المطالبة بالمحاربة الشاملة للإرهاب ليست "مزايدات"، مذكّرة بأنّها قدّمت من "التنازلات" الكثير من أجل تحقيق "الوحدة"، وهي التي قبلت الجلوس مع "الخصوم" على طاولةٍ واحدةٍ رغم كلّ شيء، إلا أنّ الفريق الآخر لم يلاقها في منتصف الطريق. وتتكرّر "المعزوفة" نفسها على لسان مصادر الثامن من آذار، ولكن بالاتجاه المعاكس، حيث تشير إلى أنّها المتضرّرة الأكبر من مشهد الفوضى، ولكنّ الفريق الآخر هو الذي رفض كلّ "نداءاتها" من أجل الوحدة، والشواهد على ذلك لا تُعَدّ ولا تُحصى.

طبقة مختلفة متفقة في آن...

هذه هي الطبقة السياسية اللبنانية، الطبقة المطمئنة على واقعها والمرتاحة على وضعها دائمًا وأبدًا..

هذه هي الطبقة السياسية اللبنانية المتيقنة بأنّها ستبقى "زيّ ما هيي"، سواء أقرّت قانون التمديد لنفسها أم أجرت الانتخابات وفق القانون الذي يضمن لها ذلك..

هذه هي الطبقة السياسية المختلفة ظاهريًا على كلّ شيء، والمتفقة ضمنيًا على كلّ شيء أيضًا..