من الواضح أن رجب طيب أردوغان لا يزال يحلم بإعادة تاريخ أجداده العثمانيين بنسخة جديدة منقحة تحمل اسم العثمانية الجديدة مدعومة بمال الغاز القطري، وأموال طويلي العمر في زواريب وتكايا الخليج، الذين يحلمون بالتمدّد نحو الحضارات القديمة – الجديدة من أجل استمرار بقائهم على كراسيهم، ولو تسبّب ذلك بأنهار من الدماء.

أعاد أردوغان قراءة تاريخ أجداده فوجد على ما يبدو أن تنظيم داعش الإرهابي يشبه إلى حدّ كبير تجربة خاضها أجداده مع ما يعرف تاريخياً بـ«الانكشارية» كأداة للسيطرة والهيمنة ومد النفوذ وتطويع الآخرين للإرادة السلطانية وتطبيعهم بطباع العثمانية الجديدة التي يحلم بها، معتقداً نفسه سلطاناً جديداً سيقود قطعان الإخوان – والجهادية الصهيونية تحت يافطة الانكشارية الجديدة… .

في المناسبة فإنّ العودة إلى المراجع التاريخية تظهر أنّ «الانكشارية» هي فرقة مشاة عثمانية أنشئت في عهد أورخان الثاني، وكان لها تنظيمها الخاص، وقواعد خاصة للانضمام إليها، تقوم على انتقاء عناصر متطرفة، وتخضع لتربية جهادية خاصة! أو عناصر تمّ أسرها في الحروب أو شراؤها بالمال… ويتمّ التركيز في الاختيار على صغار السن، وكان يمنع عليهم الاتصال بأقاربهم كما كان يفرض عليهم وقت السلم العيش في الثكنات حيث تؤمّن لهم حاجاتهم كلّها بما في ذلك «جهاد النكاح العثماني» الذي تطبّقه عناصر الانكشارية الجديدة داعش وأخواته… .

إن عدم وجود أصل وفصل لفرقة اللقطاء – أي الانكشارية جعلها تتحوّل تدريجياً إلى ظاهرة تبتز، وتهدّد لاحقاً الدولة العثمانية نفسها، بعد أن كان أجداد أردوغان يبتزون ويهددون ويقتلون الآخرين بها، حيث بدأت عناصر «الانكشارية» وقادتها بالتدخل في أمور الحكم والدولة من المطالبة بخلع سلطان قائم إلى عزل الصدر الأعظم أو قتل شخصيات أخرى في السلطنة، وتذكر كتب التاريخ قتل السلطان عثمان الثاني، وخنق ابراهيم الأول بحجة أنه يعادي الانكشاريين وينتقدهم، ووصل الأمر بهم في عهد السلطان سليم الثاني أن طالبوه بقتل شيخ الإسلام والصدر الأعظم وقائد سلاح البحرية، فلم يجرؤ على مخالفتهم فسمح لهم بقتل اثنين منهم، واستثنى شيخ الإسلام خوفاً من غضب الرأي العام…

لم تفلح كل محاولات السلاطنة في السيطرة على الانكشاريين إلى أن وصل الأمر في عهد محمود الثاني إلى قتالهم، وارتكاب مجزرة عُرفت بمعركة «الواقعة الخيرية» في 15/6/1886، لتصدر الأوامر فوراً بإلغاء «الانكشارية» بعد أن كانت رأس حربة أجداد أردوغان في القتل والسلب والنهب والتوسع والهيمنة باسم الإسلام والخلافة المزعومة…

تبدو اليوم العلاقة بين أردوغان و«داعش» شبيهة إلى حد كبير بالعلاقة بين أجداده و الانكشارية، فأردوغان يعتقد أن بنية داعش ـ من حيث نوعية العناصر والإجرام وأساليب النهب والسلب والسبي وتدمير الأسس الحضارية للمنطقة والعقيدة التي يتبناها هؤلاء ـ هي بنية مناسبة جداً للانكشارية الجديدة، التي يريد الاعتماد عليها لتحقيق حلمه العثماني الجديد، وهو ما نلمسه في الدعم اللا محدود لهذا التنظيم الإرهابي الجديد من حيث الاحتضان، الدعم اللوجستي، تسهيل النهب والسلب وتسويق بيعه داخل تركيا وفي العالم، فتح المستشفيات لجرحى الإرهاب الانكشاري الجديد، بحيث تحولت العلاقة بينهما إلى علاقة مصالحية متبادلة وواضحة ومكشوفة.

آخر مؤشرات هذه العلاقة بين السلطان أردوغان والانكشاريين الجدد ظهرت خلال مسرحية إطلاق الأمانة السلطانية لدى داعش أي الرهائن الأتراك مقابل سكوت وتسهيل ودعم الهجوم الوحشي للإنكشاريين الجدد على مدينة عين العرب لاستهداف السوريين الأكراد، كما استُهدف السوريون في كل مكان بهدف تأمين جيب داخل الجغرافيا السورية، كما يفعل قريبه بنيامين نتنياهو في جنوب سورية وتحت اليافطة نفسها أي المنطقة العازلة ، وهو ما يؤكد بشكل واضح أن الهدف الأساسي هو حلم إسقاط القلعة السورية التي لا تزال تشكل عقدة حقيقية لأردوغان وابن عمه نتنياهو.

إن قراءة التاريخ تفيد في أمور كثيرة، لكن أهمها على الإطلاق هو أخذ الدروس المستخلصة، وإذا كان أردوغان لم يقرأ جيداً دروس أجداده مع الإنكشارية القديمة، ويعتقد أن بإمكانه إعادة إنتاجها بنسختها الجديدة داعش وأخواته فهو مخطئ وأحمق، لأن هذا الزمان هو زمن مقاومة الشعوب وفرض إرادتها، هو زمن أن نكون أو لا نكون وبالتأكيد هو زمن الأحرار وليس صناع الانكشارية الجديدة التي لن يطول الزمان قبل أن تطالب بقتل الصدر الأصغر أحمد داوود أوغلو، وإزاحة الأحمق الأكبر رجب طيب أردوغان، كما حصل مع أجداده تماماً، وإن غداً لناظره قريب.