لا تزال مأساة العسكريين اللبنانيين المخطوفين تلقي بظلالها على الحياة اليومية في بلدٍ تقف غالبيته العظمى خلف الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية (لا يخفى دعم عدد قليل من اللبنانيين المنظمات الارهابية تحت ذرائع مختلفة...).

كلّ الأنظار اتجهت منذ اليوم الأول إلى الحكومة اللبنانية وموقفها وكيفية تعاطيها مع هذا الملف. ولكن بدل أن تتخذ الحكومة موقفاً ثابتاً فور حصول المسألة، تنوّعت المواقف إلى أن تقرّر اعتماد عبارة "أوراق القوة" التي تملكها الحكومة (1) عند كل محطة تتناول ملف العسكريين المخطوفين وبالأخصّ عند إعدامهم بوحشية مطلقة والترويج لهذا الاعدام المسيء للدين والانسان عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

بالأمس، تحدّث رئيس الحكومة ​تمام سلام​ (2) عن تأييده لمبدأ التفاوض من أجل تحرير العسكريين المخطوفين، وهو موقف معروف له لكنّ الجديد فيه أنه عاد إلى التداول للمرة الأولى على لسان رئيس الحكومة حاجبًا عبارة "أوراق القوة". ولدى التوقف عند هذا الأمر يتبيّن أنّ "أوراق القوة" فعلت فعلها وبدأت مرحلة ما بعد هذه الأوراق، وهذا ما يمكن تبيانه من خلال المعطيات التالية:

- أرفق سلام كلامه في الموقف نفسه، بالتشديد على أنه تلقى وعداً من الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ بالمساعدة في ملف العسكريين المخطوفين. وبالتالي، فإنّ القطار التركي وُضع على السكة مع القطار القطري في هذا المجال، بالتنسيق مع المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم.

- لم يكن عابراً ما أعلنه الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله من أنّ الحزب لم يقف ابداً في وجه التفاوض (3)، وهو أمرٌ شكّل قوة دعم إضافية للحكومة في موقفها ووجّه رسالة إلى كل من يعنيه الامر أنّ الحزب مستعد للقيام بما يلزم في هذا السياق، وهو ما ألمح اليه من خلال قوله أيضاً : "الحكومة اللبنانية تعرف ما هي نقاط القوة الموجودة لديها، ويجب المفاوضة من موقع القوة وليس من موقع التوسل".

- التحركات الميدانية التي قام بها الجيش اللبناني في الآونة الاخيرة، عكست انزعاجاً كبيراً لدى المجموعات الارهابية الاجرامية، وأعطت المفعول المطلوب استخباراتياً وعسكرياً، وهو أمر ساعد بشكل كبير في إراحة المفاوضين المعتمدين من الحكومة.

- الموقف اللبناني الجامع المندّد بالتعرض للجيش اللبناني، وهو ما حصل بعد المداهمات التي نفذها الجيش في مخيمات السوريين في عرسال، إذ لم يعترض عليها سوى بعض الشبان اليافعين وبعض النازحين السوريين الذين رفعوا إعلام "داعش"، فيما الغالبية، وخصوصاً من الطائفة السنية، لم تصعّد مواقفها تجاه الجيش. ولعلّ البيان الذي صدر عن النائب سعد الحريري، وأبدى خلاله دعمه للجيش وانتقاده بيان الائتلاف السوري الذي وجّهه الأخير للأمم المتحدة وضمّنه ما أسماه "انتهاك الجيش اللبناني لحقوق الانسان والاعتداء على النازحين في عرسال"، كان كفيلاً بقطع اي محاولة لأيّ سياسي مُعادٍ للجيش أن يلقي بدلوه في هذا المجال.

- انقطاع النشاط الذي يقوم به اللواء ابراهيم في مجال المفاوضات، دائماً ما يكون مؤشراً على حصول تقدم ما. فلو كانت الأمور تسير بمنحى مغاير أو تراوح مكانها، لكان أطلّ اللواء ابراهيم عبر الاعلام وألمح إلى وجود مثل هذه الحالة.

وعليه، بات من الواضح أنّ عودة سلام من نيويورك حملت معها الزخم الاقليمي والدولي المطلوب والذي تقاطع مع الزخم المحلي، وهو ما يسمح بالقول أنّ "أوراق القوة" أعطت ثمارها على ما يبدو، وبدأت المرحلة الثانية التي استثمرت هذه الأوراق للانتقال إلى "قوة التفاوض".

قد لا تكون فترة المرحلة الثانية قصيرة، لكنها ستكون حتماً محطة أمل جديد بالنسبة إلى أهالي العسكريين المخطوفين الذين يواصلون تحرّكهم من أجل إنقاذ أبنائهم، كما ستسمح للجيش بالتحضير للمعركة الكبرى التي سيخوضها عاجلاً أم آجلاً في وجه المجموعات الإرهابية.

أما الأهم، فهو أنّ هذه الفترة ستشكل أيضًا فرصة للحكومة لإثبات "قوتها" سياسياً وهو أمر تحتاجه بشدّة لترسيخ نفسها أمام الجميع في الداخل والخارج كسلطة قادرة على التعاطي مع الصعوبات في ظلّ غياب رئيس للجمهورية.

(1) يمكن مراجعة مقال سابق نشر في صحيفة "النشرة" الالكترونية تحت عنوان: "قطر واللواء ابراهيم ابرز اوراق القوة لدى الحكومة".

(2) بتاريخ 28/9/2014، أشار رئيس الحكومة تمام سلام إلى أنه "يؤيد مبدأ التفاوض لتحرير جنود الجيش اللبناني المختطفين"، داعياً الى "إبقاء الأمر بعيداً من المنافسة أو المزايدة بين القوى السياسية في لبنان".

(3) بتاريخ 23/9/2014، قال الامين العام لـ"حزب الله" في ما يتعلق بملف العسكريين المخطوفين: "... من الطبيعي في قضية من هذا النوع ان الجهة المعنية تقوم بالتفاوض ونحن فاوضنا في عدة مناسبات لاستعادة أسرانا لذلك نحن لم نرفض على الاطلاق مبدأ التفاوض.. البعض حوّل القضية الى مادة للسجال وتصفية الحسابات السياسية.. كل من نقل عن حزب الله رفضه التفاوض أو غير ذلك منافق وكذاب."