بخلاف الحديث عن الإنهيار في واقع الحركات "الجهادية" التنظيمي، من الملاحظ أنّ أفكارها باتت تحظى بتعاطف شعبي كبير في بعض البيئات، وهذا الأمر لا يجب إنكاره لأن معالجته هي الأساس الذي يجب العمل عليه من أجل كسب المعركة النهائية.

لا تستطيع العمليات العسكرية القضاء على هذه الحركات بشكل مطلق، هي قادرة على إضعافها مرحلياً، لكنها ستعود إلى الواجهة في أقرب فرصة ممكنة، وستكون بكل تأكيد بنسخ أكثر تطرفاً عن السابقة، لأن منسوب الإحتقان سيتضاعف في المستقبل بحال عدم تقديم مشروع واضح يستطيع معالجة الخلل المجتمعي القائم منذ سنوات طويلة.

الصراع على البيئة الحاضنة

لا يعير الكثيرون أهمية لهذا الصراع، على خلاف الأهمية الكبيرة التي يشكلها، لا سيما أنّ هذه المنظمات تركز في عملها على خلق هذه البيئة بأي طريقة ممكنة، وهي من أجل ذلك تستخدم كافة الأساليب المتاحة أمامها، واليوم هي تستفيد بشكل واسع من تطور وسائل الإتصالات التي سمحت لها بالوصول إلى شريحة واسعة من المواطنين بأي دولة.

من هذا المنطلق، لا يجب التعاطي معها على أساس أنها حركات تقودها أجهزة مخابرات معادية فقط، لأن الخطر هو بالأعضاء المقتنعين بأن ما يقومون به "فريضة" يخدمون من خلال تأديتها الدين، خصوصاً أنها في ما تحمله من أفكار تستند إلى بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تقدمها بطريقة تخدم الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.

في هذا السياق، ينبغي العودة إلى بعض المراجع التي تستند إليها، من أجل التأكيد على الأهمية التي تعطيها في عملها لمسألة البيئة الحاضنة، حيث يشير حازم المدني، في كتابه "هكذا نرى الجهاد ونريده"، إلى "أننا نرغب في الحليف المخلص الذي يضحي لنا ولا يغدر بنا.. وهو بإيجاز شعوبنا الإسلامية".

في مكان آخر من الكتاب نفسه، يقول المدني: "إن السند الحقيقي للمجاهدين بعد فضل الله عليهم هي أمتهم الإسلامية التي ترغب وتأمل فيهم ومنهم أن يعيدوا القرآن دستور حياة يعيشون في أنواره وتحت ظلاله إلى أن يلقوا ربهم.. والتي يجب أن يدرك المجاهدون كيف يجعلونها في صفهم دائماً ولا يتركونها نهباً للحكومات والأنظمة".

على صعيد متصل، يتبين أيضاً من رسالة أبو محمد المقدسي إلى زعيم تنظيم "القاعدة" في العراق أبو مصعب الزرقاوي مدى الإهتمام بهذه البيئة، فيعتبر الأول أنه "لا بد مع الجهاد من خطاب إعلامي واع ناضج يخاطب الناس على قدر عقولهم ويحدثهم بما يعرفون ولا يتبنى شيئاً من الأعمال التي لا يستوعبها الناس أو الأعمال غير الناجحة".

كما يدعو المقدسي الزرقاوي إلى أن ينأى بنفسه وقيادته "عما يُستبشع أو يشوه صورة الجهاد وينفّر عنها خصوصاً مع إنتشار الجهل وقلة العلم وعدم إحاطة الناس بما عند خواص المجاهدين من إختيارات فقهية فرعية".

التغرير وإستهداف رجال الدين

إلى جانب المعركة الفكرية التي تخوضها هذه المنظمات، هناك إهتمام كبير في الشق الإعلامي من نشاطها، ومن الممكن ملاحظة طريقتها في التوجه إلى الرأي العام عبر إستغلال أي قضية من الممكن أن تكسبها تعاطفاً، لا سيما على الصعد الإقتصادية والإجتماعية والسياسية.

وهي عمدت في سبيل ذلك، إلى إستغلال التقدم الحاصل في وسائل الإتصالات الحديثة، فباتت هي الأنشط على مواقع التواصل الإجتماعي، وتقوم عبرها بنشر الرسائل التي تريدها بشكل شبه دائم، وتستطيع من خلال التقنيات التي تمتلكها في تحوير أي أمر كي يصب في مصلحتها، وخلال السنوات الأخيرة تبين هذا الأمر بشكل قاطع.

على صعيد متصل، ينبغي التمعن بعمليات الإغتيال التي إستهدفت رجال دين معارضين لهذه الجماعات منذ بداية عملها، وهي تستند من أجل تبرير ذلك على بعض الأحكام، وتطلق الإتهامات على هؤلاء من أجل تصفيتهم جسدياً في مرحلة لاحقة، وهناك الكثير من الكتب والمقالات ذات التوجه المؤيد التي تدعم ذلك.

في هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أن المقدسي نفسه، في مقدمة كتابه "ملّة إبراهيم"، يوجه رسالة إلى "الطواغيت في كل زمان ومكان.. حكاماً وأمراء وقياصرة وأكاسرة وفراعنة وملوكاً.. إلى سادتهم وعلمائهم المضلين.. إلى أوليائهم وجيوشهم وشرطتهم وأجهزة مخابراتهم وحرسهم".

والسبب في إستهداف رجال الدين، يعود إلى أنها تدرك أن هؤلاء هم السلاح القادر على هزيمتها، فهم يستطيعون مقارعتها بالحجج الواهية التي تقدمها، في حين هي قادرة على تكفير الفئات الأخرى التي تقف بوجهها، وبعد القضاء على هؤلاء، تستطيع هي أن تقدم الخطاب الديني الذي يناسبها، ولن تجد من يستطيع أن يجادلها بالطريقة المناسبة، خصوصاً أن ليس كل الناس علماء دين قادرين على تقديم الحجج المضادة بالشكل المناسب.

"بالذبح جيناكم" والرد عليه

بعد الحديث عن البيئة الحاضنة وعمليات إستهداف رجال الدين المعارضين للتكفير، من الضروري التطرق إلى أهمية التعامل معهم بالإسلوب نفسه، فإلى جانب المعارك العسكرية الضرورية، ينبغي التركيز على معركة كسب الرأي العام، والتي تتفوق فيها هذه الجماعات حتى الآن إلى حد بعيد، ومن يرفض الإعتراف بذلك عليه أن يقدم الحجج التي تبرر قدرتها على كسب بيئات حاضنة في أكثر من بلد.

من هنا، من الضروري التنبه إلى أن أغلب المجتمعات التي إستطاعت هذه الحركات العمل بها بشكل قوي، كانت تحمل في تكوينها عوامل الضعف الإجتماعية، الأمر الذي ساهم في تأمين الأرضية التي تؤهل قيادتها إلى النشاطات العنفية، أي أنها تعمل على إستغلال كل نقاط الضعف القادرة على تحويلها إلى نقاط قوة، مقابل الفشل في تسديد ذلك من قبل من يعارضها بسبب عدم إداركهم خطورة ما يحصل.

على سبيل المثال، تكفي الإشارة إلى أن بعض ما يستند عليه من يكفرون الناس تم الرد عليه من قبل علماء دين كبار منذ عشرات السنين، لكن مع الأسف تستطيع هذه الجماعات أن تعيد تسويق تلك الأفكار ونشرها على نطاق واسع، في حين تعجز الجهات المعارضة لها عن عرض الردود عليها بالإطار نفسه، في ظل غياب أي معالم لمعركة على الصعيد الفكري تتوجه مباشرة إلى البيئات الحاضنة أو التي من الممكن أن تصبح كذلك.

على هذا الصعيد، يعلم الكثيرون بشعار "بالذبح جيناكم"، لكن قليلون جداً هم يعرفون حقيقته، وبأن الرد على إستخدامه الخاطىء تم قبل أكثر من نحو 30 عاماً.

في مقدمة كتاب "الجهاد الفريضة الغائبة"، يشير القيادي في تنظيم "الجهاد" محمد عبد السلام فرج، الذي أعدم من قبل السلطات المصرية في العام 1982، إلى أن النبي محمد خاطب طواغيت مكة وهو بها بالقول: (استمعوا يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح)، ويضيف: "فأخذ القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع وحتى أن أشدهم عليه ليلقاه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انطلق يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً، ورسول الله بقوله: (لقد جئتكم بالذبح) قد رسم الطريق القويم الذي لا جدال فيه ولا مداهنة مع أئمة الكفر وقادة الضلال وهو في قلب مكة".

هذا الشعار نفسه الذي يرفع اليوم في ساحات المعارك من قبل التكفيريين، رد عليه مفتي الديار المصرية في العام 1982، موضحاً أن قصة هذا القول كما جاءت في السيرة النبوية (ج - 1 ص 309 و 310 طبعة ثالثة دار احياء التراث العربى بيروت 1391 هجرية - 1971 م)، فيقول: "نعود إلى اللغة نجدها تقول ذبحت الحيوان ذبحاً قطعت العروق المعروفة في موضع الذبح بالسكين، والذبح الهلاك، وهو مجاز، فإنه من أسرع أسبابه، وبه فسر حديث ولاية القضاء (فكأنما ذبح بغير بسكين) ويطلق الذبح للتذكيه، وفي الحديث (كل شىء فى البحر مذبوح) أي ذكي لا يحتاج إلى الذبح، ويستعار الذبح للإحلال، أي لجعل الشيء المحرم حلالاً، وفي هذا حديث أبي الدرداء رضى الله عنه (ذبح الخمر، الملح والشمس) أي أن وضع الملح في الخمر مع وضعها في الشمس يذبحها أي يحولها خلاً فتصبح حلالاً".

ويؤكد أن "أي معنى لغوي للفظ الذبح في هذه القصة يعتد به لا يجوز أن يكون المراد المعنى الأصلي للذبح"، ويشدد على أن "تفسير الذبح في هذا التهديد بالمعنى المتبادر لهذا اللفظ يتعارض مع ما عرف عن رسول الله من خلق وحكمة ورحمة بالناس، وقد أكد القرآن كل هذه الصناف لرسول الله صلى الله عليه وسلم".

في المحصلة، البيئة الحاضنة هي أهم سلاح في المعركة مع الإرهاب، والعمل على كسبها ينبغي أن يكون أولوية، فإلي جانب الجندي يجب أن يكون هناك من يتوجه إلى المؤيدين بخطاب عقلاني يخاطب الأفكار التي باتوا يؤمنون بها، ومن يعالج الأمور التي دفعت بهؤلاء إلى هذه الطريق، وبخلاف ذلك لن تكون أي قوة عسكرية في العالم قادرة على إنهاء المشكلة القائمة بشكل جذري.