2 تشرين/ الثاني نوفمبر:2011 انقسمت أبصار العرب والمسلمين وبيوتهم وألسنتهم إلى وجهتين:قسم أنثوي بمعظمه مشدوه ومسمّر بفرحٍ عظيم أمام الشاشات لمتابعة "حريم السلطان" المسلسل الذي يحكي حياة السلطان العثماني سليمان القانوني الخليفة المسلم ثاني من لقب ب"أمير المؤمنين" من آل عثمان، والذي سيطرت في عهده الدولة الإسلامية على قارات ثلاث وأصبحت أقوى دولة في العالم .

وقسم ثان ذكوري بمعظمه كان متبرّماً لسببين: أوّلاً لأنّه يكره تاريخ الإمبراطورية العثمانية وأحابيل تركيا المسكونة بالحلم الإمبراطوري المقيم في ذاكرتها، وثانياً لأنّه لم يفهم سرّ هذا الانجذاب الخاطف إلى حياة السلاطين وأجواء الحريم وأفخر الثياب والمجوهرات والحفلات الموسيقية والمكائد وقطع الرؤوس والمؤمرات . لقد أورث هذا الانقسام قطعاً الكثير من المشاجرات والمشاحنات بين أفراد المنزل الواحد، مع أنّ في كلّ بيت ربّما أكثر من جهاز تلفزيون .

منذ أسبوع، توفيت "ميرال أوكاي" كاتبة "حريم السلطان" عن 56 عاماً، وقطعت الأنفاس العربية لمشاهدة الحلقة الأخيرة من المسلسل الدرامي الذي استغرق بثّه سنواتٍ ثلاثاً مجايلاً "ربيع العرب" وهو مسلسل أنتج تركيّاً عام 2010 وكلّف إنتاج الحلقة الواحدة منه 550 ألف دولار وعرض في 45 دولة وتمّت دبلجته ب 12 لغة . ولا ننسى بأننّه جاء أصلاً باللهجة السورية.

ومنذ أسبوع أيضاً تنقطع الأنفاس بانتظار نتائج غارات تحالف الأربعين فوق "دولة الخلافة"، ونتطلّع نحو البوابة التركيّة المشرعة على الإرهابيين ونحو سوريا والعراق اللذين قد لا يبقى منهما سوى النبرة بعدما تقاطرت عضلات العالم نحوهما.

وفي ال2005 قال هنري كيسينجر بغضب "إذا أردت التكلّم مع قارة أوروبا، فأيّ رقم أطلب؟ في البلدان الإسلامية تبدو المسألة أشدّ تعقيداً . هل أتّصل بالقاهرة أم بالرياض أم بطهران أم أنقرة أم إسلام آباد أم جاكرتا؟ لا أعرف . لكلّ منها خيار منطقي لكن لا يستطيع أيّ منها التحدّث بكلام له معنى باسم الإسلام كمجموعة ذات مرجعية مقبولة من بقية المجموعات".

وبعد شهر ونصف من المباشرة ببث "حريم السلطان"، أي منذ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2011، تاريخ انتحار محمد بوعزيزي حرقاً أمام مبنى البلدية في سيدي بوزيد في تونس، أقام معظم العرب في الشاشات، وبقهرٍ عظيم، متابعين مشاهد "ربيع العرب" الدامي .

ربيعان لا يلتقيان أبداً: "ربيع حريم السلطان" وربيع سقوط الأنظمة والسلاطين والحكّام . يتشارك الربيعان بصور العنف والخراب بين ماضي العرب وحاضرهم . يبدع الخيال الدرامي للمسلسل في تقديم تاريخ تركيا الذهبي بنسخة إسلامية معاصرة مغرية للكثير من المسلمين، بينما يبدع إرهابيو الإخوان المسلمين ومتفرّعاتهم بنقل صور الواقع الإسلامي البائس والمقلق من البوابة التركية .

ما الرابط بين هذه التواريخ؟ ليس تأثير الصورة، بل تجهيزها وتقديمها جزءاً متقدّماً في ورش "الماكياج" في التخريب .

كيف؟

أمامي على الشاشة عشرون مليوناً وسبعون ألف وثيقة عربيّة و150 ألف شكوى حول "حريم السلطان" المسلسل الأضخم في تاريخ الدراما التركية، وعالم من النقاشات والسجالات حول وظيفة المسلسل بين أن يكون تشويهاً لصورة تركيا وأردوغان، أو على العكس طعماً لذيذاً للمذاق العربي والإسلامي .

وأمامي أيضاً محاضرة/وثيقة فائقة الأهميّة تتكلّم عن الفكرة المعلنة بدور تركيا مزدوج في ما يحصل من كوارث حقيقية في الوطن العربي . أنقل المقطع الأخير منها:

"هناك مشكلة أمام تولّي تركيا دوراً قيادياً في الإسلام هو جيرانها . كان معظم هؤلاء الجيران تاريخياً جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وكان على معظمهم، بما في ذلك العرب، النضال للحصول على استقلالهم . ما زال التاريخ يترك لديهم مخاوف على تركيا العمل على تطمينهم . وإذا نجحت فستكون في موقع يسمح لها بالحدّ من النزاعات بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وغير المسلمين" .

"ففي 16 حزيران/ يونيو 2005 قام صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية "صراع الحضارات" بإلقاء محاضرة في إسطنبول بحضور أردوغان وكبار القادة والنخب التركية لم تنشر خارج تركيا، عنوانها: "السياسة العالمية ودور تركيا في المستقبل القريب" . جادل فيها فكرة معنى أن يكون الإسلام حضارة واحدة جامعة أو حضارات متعددة . وقد نعتبره متجاوزاً لكيسنجر إذ اقترح ربّما فكرة توحيد بهدف المزيد من تشظيهم إذ قال:

"الإسلام أقلّ توحّداً من أيّ حضارة أخرى، لأنّ الانقسامات القبلية والدينية والسياسية والثقافية تحفز العنف بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وغير المسلمين، ولأنّ مجموعات وحكومات إسلامية مختلفة، تتنافس في ما بينها لترويج نسختها الخاصّة من الإسلام، كما أنّها تدعم المجموعات الإسلامية التي تقاتل غير المسلمين من البوسنة إلى الفيليبين".

ما هو الحلّ الذي اقترحه المحاضر الأميركي المعروف جداَ والمسموع في البيت الأبيض لجعل المسلمين أصحاب حضارة واحدة؟

إيجاد دولة قيادية في الإسلام، وهو أمر جيّد للإسلام وللعالم على حدّ سواء . فعندما تسيطر دولة أو دولتان على العالم الإسلامي، كما هي الحال مع حضارات أخرى، وذلك خلافاً لما يحصل مع الإسلام منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية، سيصبح العنف أقلّ بين المسلمين، وعلى الأرجح بين المسلمين وغير المسلمين . . تركيا و"إسرائيل" ديمقراطيّتان مستقرّتان ومزدهرتان في منطقة غير ودودة وغير مستقرّة، وهما قوّتان عسكريّتان في الشرق الأوسط وكانت لكلتيهما، ولا تزال علاقات أمنية وثيقة مع الولايات المتحدة . . تركيا دولة إقليمية عظمى قادرة على لعب هذا الدور المرجعي للمسلمين، وإيران أيضاً هي دولة إقليمية عظمى لا يمكنكم إغفال دورها في مستقبل الشرق الأوسط ومستقبل الإسلام . وكي تلعب تركيا هذا الدور، عليها التخلّي عن عقائد الماضي وتكييف سياساتها لمواجهة المخاطر والتحدّيات والحروب المتوقعة الآتية . وهذا الأمر يطرح مشكلة إرث أتاتورك العصري والعلماني الغربي الذي جعل تركيا ذات وجه أوروبي يحتاج إلى التبديل والتغيير والتنقيح . ولو كان أتاتورك حاضراً لما تردّد في الموافقة على أن تعيد تركيا تحديد دورها في عالم القرن الحادي والعشرين المختلف جداً

.لست أربط بين هذه التواريخ المذكورة للتأشير إلى المؤامرة . لكنني أدلّكم إلى تركيا "النموذج" المقترحة التي صدّقت نفسها ومضت بلا غطاء على وجهها مع صعود ملثمي الحركات الإسلامية. فقد تعزّز العنف بين المسلمين، وبينهم وبين غير المسلمين الى حدود إقتلاع المسيحيين والأقليات الذي سيبقى مستحيلاً .

واحتلّ "حريم سلاطينها" المسلسل الرقم واحد الذي خطف العيون حتى البلقان عمّا تنخرط فيه من كوارث ترعاها برعايتها الفاضحة للإخوان المسلمين ومشتقاتهم في أكثر من بلدٍ عربي .

هل تمكّنت تركيا بمسلسلها من مصالحة العرب مع الماضي العثماني؟ وهل نجحت في تقديم نسختها الإسلامية المشدوهة بالأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا؟ هل أشرق وجه السلطنة العثمانية من جديد؟ هل هي فيدرالية قبل نشوء الفيدراليات فيها تتعايش الطوائف الدينية والمجموعات العرقية؟ هل نجحت في تقديم نفسها أمة عظيمة ثقافياً وفنياً بمفاهيمها الشرقية الساحرة، وبإسلامها المحب للأديان والمتذوق للأدب والفنون؟ أسئلة كثيرة من المبكر الإجابة عنها، لأنّ العيون تفرح بسقوط الأقنعة فوق بوّابة اسطنبول إذ تعبر نحو الجنوب .