حين يرفض وزير الداخلية نهاد المشنوق في حضرة "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية"، وبلهجة حاسمة، العلم الأسود الذي تحت رايته يُذبح العسكريون اللبنانيون، لا شك فإننا نكون أمام هيبة تُستعاد للقوى العسكرية اللبنانية من قبَل ما يمثّل المشنوق حكومياً وسياسياً.

وحين تقتصر أعداد المشاركين في تظاهرة "جمعة لا لذبح عرسال"، على السوريين النازحين في عرسال والعشرات من المستفيدين في طرابلس، نكون أمام حالة - سُنية تحديداً - رافضة إلى حيث يجرّون بالطائفة الكريمة أن تكون.

وحين تلتفّ غالبية اللبنانيين حول الجيش والقوى الأمنية، نكون أمام حالة شعبية جامعة مترفّعة عن منزلقات بعض السياسيين من حرّاس الفتنة وتجّار المواقف غبّ الطلب.

وحين تعيش الغالبية اللبنانية بأطيافها وطوائفها جميعاً، القلق والهمّ نفسيهما جراء التهديدات "الداعشية" وأخواتها من التكفيريين الخارجين عن كل القواعد البشرية، نكون أمام عصبية لبنانية يشتدّ عضدها لتصل إلى مستوى التوحد لحماية لبنان وشعبه من شرور وحوش آتية من خارج التاريخ تهدّد باحتلال بيروت..

وحين تكون بيروت عصيّة بحناجر وسواعد كل اللبنانيين على أن يحتلوها أو يهددوها أو أن يطأوا أعتابها، نكون أمام لبنان المقاومة والصمود والانتصار بتاريخه؛ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

نعم، تاريخنا هو تاريخ انتصار.. انتصار الذات يوم هزمنا المؤامرة بخروجنا من الحرب الداخلية، وانتصار دائم حين نواجه خطراً خارجياً أياً كان نوعه وحجمه.. ألسنا مؤمنين أن زمن الهزائم قد ولى وأن زمننا هو فقط للانتصار؟

ولأن زمننا هو زمن الانتصار، علينا ألاّ نفرط بأوراق القوة.

فبدءاً بثبات مقاومتنا في الميدان في المكان الذي فيه حيث يجب أن تكون، مروراً بالمواقف المفصلية التي تجمعنا، وصولاً إلى كلام الوزير المشنوق كلها أوراق قوة، علينا استخدامها لننأى بحق بلبنان عن ظلامية ما يحيط به، ولنحرّر عسكرييه من براثن إرهابيين ما عرفوا يوماً معنى الإنسانية وقيمها، ولا استذوقوا طعم الانتصار...

لكن قراءة سريعة لما يجري تضعك أمام تخوّف مبرّر من أن تخسر أوراق قوتك تحت ضغط العاطفة؛ فتحرُّك أهالي العسكريين المختطفين من قبَل المسلحين، وقطع الطرقات التي تربط لبنان ببقاعه، إذا ما تجاوزنا الكلام الصادر في توصيف جماعة الإرهابيين، وعلى أي أساس اختيرت هذه الطرقات، يجرّ المتابع إلى أكثر من سؤال:

- لماذا قطع طرقات البقاع وليس طريق المطار مثلاً.. أو طريق عرسال وجرودها؟ أوليست الأخيرة أفعل وأنجح لمواجهة الخاطفين بورقة ضغط قوية تمنع الإمداد عنهم؟

- لماذا وضع أهالي العسكريين المختطَفين في صورة وكأنهم - لا سمح الله - منفذو أوامر الخاطفين، أو في نتائج توحي وكأن حركتهم تلبية للطلبات التي يلقنها الإرهابيون لأبنائهم المختطفين الذين لا حيلة لهم سوى السكّين المسلَّط على رقابهم؟

أسئلة مقلقة تستدعي أسئلة: هل صحيح أن قطع طرقات البقاع هدفه قطع الإمداد أمام الجيش اللبناني والمقاومة؟

هل صحيح أن تحضيرات عسكرية للمسلحين الإرهابيين لمعركة يخوضونها في القلمون وجرود عرسال تستدعي إقفال تلك الطرقات؟

هل صحيح أن الهدف هو رفع مستوى التوتير المذهبي الذي يمارسه حلفاؤهم ومزيد من تأليب الأمور شيعة وسُنة؟

وهل صحيح أنه تراكم لشلل اقتصادي فوق شلل؟

أسئلة مشروعة تدعنا نطرحها بحذر وألم، نحن الأكثر صدقاً في محبة العسكريين وأهل العسكريين، والأكثر حماسة لتحرير العسكريين من براثن المجرمين، خصوصاً بعدما حزمت الحكومة أمرها وسلمت بالتفاوض وبالمقايضة.. ولمَ لا؟ فمبدأ القبول بالتسويات سواء كانت صفقات سياسية أمنية أو إنسانية أو اقتصادية، دولية أو إقليمية أو محلية، جميعها تقوم على المقايضة، أوليس التمديد للمجلس النيابي وإقرار سلسلة الرتب والرواتب وسائر التشريعات المرتبطة بإصدارات اليوروبوند أو تشريع الإنفاق قامت على المقايضة..؟

فلتكن هذه المقايضة إذاً، وليسهّل الإرهابيون إتمام هذه الصفقة إذا كانوا فعلاً صادقين في زعمهم وحججهم، وليُفرجوا عن لائحة مطالبهم، سواء من لبنان أو من السلطات السورية، ليعمل الوسطاء على ترجمة بنودها وفق الآليات الممكنة، علّ نتائجها تضفي إلى إبعاد من يجدر إبعاده من أولئك الذين عاثوا بيننا إرهاباً، فيخلص اللبنانيون منهم ومن أمثالهم، ويخلص سجن روميه من بؤرة قابلة للاشتعال والتفجير في كل لحظة، وذلك رحمة بوطن وشعب وعسكريين مختطفين وأسر محروقة، ولوضع حد لمهازل العصر ومشاهد الإذلال، ولتُقلب بعدها الطاولة على رؤوس من يتلذذ بإهانة لبنان بعزته وشرفه وتضحياته، ولتُسحب الذرائع من أسنان الذين يشدون بحاضرنا ومستقبلنا إلى ما قبل العصور المتوحشة، وإلا بتنا جميعاً مهدَّدين بأوراق قوتنا... فالأجدر المبادرة اليوم قبل الغد، كي لا نُسهم في خسارتها.