يكاد لا يمرّ يومٌ إلا ونسمع فيه كلامًا عن أنّ الوجود المسيحي في الشرق بات مهدّداً بالخطر، وأنّ أعداد المسيحيين في دول الشرق الاوسط تقلّ تدريجياً وبصورة مخيفة لا سابق لها. وقد أدّى هذا الكلام والأرقام التي رافقته لتؤكد صحته، إلى تحرّك مسيحي كثيف على المستوى الديني قاده الفاتيكان لمنع تفاقم الامور وإفراغ الشرق من مسيحييه.

وأعطيت مسبّبات كثيرة لهذا الفراغ الذي يكبر، أولها طبعاً الانتشار المتسارع للجماعات الارهابية في المنطقة، وخصوصاً في العراق وسوريا والتي استهدفت المسيحيين في أكثر من منطقة، دون أن يكون لها أيّ دور مؤثر على مسار الاحداث سياسياً أو حتى ميدانياً. وقبلها كان الاقباط في مصر يعانون من الامرّين ومن تهديدات (خفّت نسبياً)، كما حصل الأمر نفسه أيضاً في السعودية وإيران...

وإذا كان صحيحاً أنّ الارهاب وتدهور الاوضاع الاقتصادية في دول المنطقة وفي مقدّمها لبنان كان ضمن المسببات الرئيسية لهجرة المسيحيين ونزوحهم، فإنّ حاجة أوروبية-أميركية كانت أيضاً تلعب دورها في هذا السياق.

على الصعيد الاوروبي، قرعت أكثر من دولة أوروبية ناقوس الخطر بالنسبة إلى تواجد مجموعات من المتشددين الاسلاميين الذين يحاولون فرض "أمر واقع" في الدول التي يعيشون فيها، وأخذت هذه الظاهرة بالتفاقم إلى حدّ أقلق المسؤولين عن هذه الدول وباتوا بحاجة إلى طريقة للتخفيف منها أو ردعها(1).

وقد دبّ الذعر في نفوس أوروبيين من ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وفرنسا وهولندا والدانمارك وحتى سويسرا... حين اتخذ بعض هؤلاء المتشدّدين إجراءات عملية للاعلان عن أنفسهم وفرض معتقداتهم على سواهم(2).

وغني عن القول أنّ الوجود الاسلامي الكثيف في الدول الاوروبية بدأ يعطي نتائج عكسية من وجهة نظر الدول المعنية، استناداً الى المعطيات التالية:

- إنّ معدّل الولادات لدى المواطنين المسلمين أعلى من معدّل الولادات لدى المواطنين المسيحيين في هذه الدول، ما يعني أنّ الوجود الاسلامي في دول أوروبية ذات غالبية مسيحية قد يغيّر المعادلات، وهو أمر لا يطمئن مسؤولي هذه الدول.

- بفعل المجموعات الارهابية، بات المسلمون في العالم أجمع مضطرين للدفاع عن دينهم الحنيف وتغيير الصورة التي أوصلها الارهابيون عن المسلمين. وقد عمد الكثير من المسلمين إلى نشر فيديو والقيام بتحركات شعبية تنديداً بما يقوم به الارهابيون باسم الاسلام، وهي أحداث تعيد إلى الأذهان ما حصل في الولايات المتحدة الاميركية ابّان أحداث 11 ايلول الشهيرة.

وبالتالي، فإنّ دول ​أوروبا​ والولايات المتحدة باتت تنظر إلى المسلم من زاوية "أنه متهم حتى تثبت براءته"، وهو أمرٌ خطير لا يمكن الاستهانة به.

- تدفق أعداد من مختلف الدول الأوروبية والأميركية ومن أستراليا وغيرها من الدول للانضمام إلى المجموعات الارهابية وفي مقدّمها "داعش"، أثار استياءً عارماً لدى المسؤولين في هذه الدول، وهو ما أوجب اتخاذ تدابير صارمة لمنع استمرار الانضمام إلى هذه المجموعات، كما أنّ الخوف يكبر أيضاً من إمكان عودة هؤلاء إلى الدول المعنية، مع ما يحملون من إجرام وحقد قد ينفجر في أيّ وقت على أراضيها.

كما أنّ الخوف بات ينتاب أوروبا وأميركا والعالم بعد معرفة أنّ قسماً مهماً ممّن انضمّ إلى الارهابيين ليس من أصحاب السوابق، وكان شخصاً عادياً يعيش حياته اليومية بشكل طبيعي.

- تغادر المئات من الفتيات والنساء منازلهن وحياتهن في أوروبا للانضمام إلى داعش(3)وسرعان ما يصبحن أرامل، إلا أنّ الخوف يكمن إثر عودتهنّ إلى بلادهنّ مصطحبين أولادهن فيصبح هؤلاء مواطنين بطبيعة الحال، وهنا الكارثة الكبرى.

وعليه، لم يعد أمام الاميركيين والاوروبيين سوى تعزيز الوجود المسيحي، وهو أمر لا يمكن تحقيقه سوى باستقطاب المسيحيين من الشرق، وليس فقط أولئك الذين يهاجرون بسبب الضائقة الاقتصادية والمالية، بل يجب توفير سبب أهمّ لجعل المتردّد منهم يرغب في الرحيل.

وأتت مسألة الارهاب والاضطهاد بمثابة الجواب الشافي، حيث لم يتردّد الكثير من المسيحيين في المغادرة خوفاً على حياتهم وحياة عائلاتهم. في المقابل، لم يتردد الاوروبيون في فتح أيديهم لهؤلاء وخصوصاً النازحين من العراق(4)، وهو ما أثار حفيظة رجال الدين المسيحيين العراقيين والمنطقة بشكل عام.

وتحرّك الفاتيكان ايضاً بعدما شعر بخطورة ما يحصل، فضغط لعقد مؤتمر عالمي في واشنطن لدعم مسيحيي الشرق، ولتكون مشاركة رجال الدين فيه جدية وشاملة. ولم يأت اختيار واشنطن كمقر لاستضافة المؤتمر عن عبث، فهي كانت بمثابة رسالة إلى الادارة الاميركية والغرب بأن المسيحيين في الشرق لا يجب أن يغادروه ودورهم هناك أساسي وفاعل. وعكس هذا التوجه دعوات رجال الدين المسيحيين في كل دول المنطقة للتشبث بالارض والتشديد على اهمية العيش المشترك.

ولكن ما لم يعد يُقال من قبل المسؤولين علناً، لا يزالون يعملون له في السر، فالتسهيلات للمسيحيين الشرقيين لا تزال مستمرة، و"القرف" الذي يعيشه المسيحيون في المنطقة لا يزال آخذاً في الازدياد ويشجعهم يوماً بعد يوم على الهجرة الى دول يطمئنون فيها الى استمرارية عيشهم بكرامة، فهل سيفرغ الشرق من مسيحييه؟ ومن سيتحمل المسؤولية؟

(1)في 30/8/2014 اعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في تصريح ان خطر المتشددين الاسلاميين يطال اوروبا كما يطال بريطانيا.

(2)في 8/9/2014، اعتقلت الشرطة الالمانية عدداً من الاشخاص شكلوا ما اسموه "شرطة الشريعة" وكانوا يجوبون الطرقات لحث الناس على الامتناع عن بعض النشاطات او تغيير طريقة عيشهم. واعتبرت الحكومة هذا التصرف بمثابة "قانون مواز" لقوانين المانيا، واعلنت انها لن تتهاون في التعاطي معه كما يلزم.

(3)في 30/9/2014 نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية تحقيقاً اشارت فيه الى أن مئات النساء والفتيات في الدول الغربية يغادرن اوطانهن من أجل الانضمام إلى صفوف المجموعات الارهابية في الشرق الأوسط، مما تسبب في قلق متزايد لدى محققي مكافحة الإرهاب. وأوضحت الصحيفة أن النساء والفتيات يمثلن نسبة تبلغ نحو 10% من الذين يغادرون أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا للانضمام للجماعات الارهابية. وسجل في فرنسا أكبر عدد من المجندات، بنسبة تبلغ نحو 25 من اجمالي المجندات في اوروبا.

(4)في 28/7/2014، أصدر وزيرا الخارجية والداخلية الفرنسيان لوران فابيوس وبرنار كازنوف بياناً مشتركاً مما جاء فيه: "نريد مساعدة النازحين الفارين من خطر تنظيم داعش، والذين لجأوا إلى كردستان. نحن مستعدون، إن أرادوا، لتسهيل استقبالهم على أراضينا في إطار آلية لجوء".