كلّ الطرق تفضي إلى المؤتمر التأسيسي، شاء من شاء وأبى من أبى..

هي الخلاصة التي فرضتها قراءة للخلل القائم في النظام في مقالٍ نُشر قبل أشهر تحت عنوان "الدولة سقطت بالضربة القاضية.. وفزّاعة المؤتمر التأسيسي تناديها".

يومها، كان الفراغ الرئاسي لا يزال في أيامه الأولى، وكان البعض لا يزال متفائلاً بحصول حلّ "صُنِع في لبنان". مرّت أشهر دون أن يتغيّر شيء. بقي المؤتمر التأسيسي "فزّاعة" يعلّق عليها الكثيرون "خطوطًا حمراء" من كلّ الأنواع، وبقي كرسيّ الرئاسة شاغرًا ينتظر من "يتكرّم" على اللبنانيين بـ"توافق" على اسم "سعيد الحظ" الذي سيملأ، وبقيت البلاد "ماشية"، لا تكترث ولا تتأثر...

فتّش عن ​التمديد​..

بالأمس، اجتمع المجلس النيابي لأول مرّة منذ أشهر، هو الذي يعاني من أمراضٍ بالجملة، تختلف عناوينها وتتنوّع، من النصاب المفقود إلى الميثاقية الضائعة مرورًا بالشرعية المشكوك بها، واللائحة تطول وتطول وتطول.

لم يكن الاجتماع، على قلة إنتاجيته، بريئًا على أية حال. طبعًا، لم تكن بدعة "تشريع الضرورة" التي ابتكرها "ممثلو الشعب" لتبرّر هذا "الاستنفار" الذي اشتاق له اللبنانيون. كلّ القصة مرتبطة بـ"طموح" هؤلاء لتجديد التمديد لأنفسهم. هم أخذوا قرارهم، ولا يبحثون سوى عن "الإخراج" المناسب له. أصلاً، في بلدٍ يحترم نفسه وسلطاته، مجرّد الحديث عن تشريعٍ ضروري وآخر غير ضروري أو هامشي هو جريمة بحق المؤسسة التشريعية.

وفي السياق، أسئلة كثيرة تُطرَح، فمن هو هذا الذي يحدّد ما هو الضروري وما هو غير الضروري؟ وأليست كلّ التشريعات ضرورية في مكانٍ ما، أقله لفئة من الناس تنتظرها؟ وماذا عن تلك القوانين ومشاريع القوانين المرميّة في الأدراج منذ سنوات وسنوات تنتظر الفرج الذي لن يأتي؟ وإذا لم تكن "ضرورية" وفق "البدعة الجديد"، فلماذا تمّ سنّها من الأساس؟

لا قبطان والأمور "ماشية"!

كلّ هذا لا يهمّ. المهمّ أنّ نوابنا قرّروا التراجع عن كلّ "الذرائع" التي كانوا يحتمون بها لعدم القيام بواجباتهم، وأولها أنّ لا تشريع بغياب الرئيس. هنا الخطورة الكبرى، وهنا الداء. غياب الرئيس، أو الفراغ أو الشغور، سمّوه ما شئتم طالما أنّ المقصد واحد، بات أمرًا طبيعيًا وعاديًا.

مئة وثلاثون يومًا بالتمام والكمال مرّت على هذا الفراغ. مئة وثلاثون يومًا، ليس رقمًا بسيطًا. مئة وثلاثون يومًا، ولبنان بلا رئيس، بلا قائد السفينة كما يقولون، بلا القبطان، وطبعًا ما سُمّي بـ"تشريع الضرورة" لم يكن ممهّدًا لـ"انتخاب الضرورة". البحث في الأسباب مسيّس، دون شك، لكن الأهمّ منه هو البحث في النتائج قبل ذلك. والنتائج أنّ لبنان خلال الأيام المئة والثلاثين بقي لبنان. كلّ أموره تسير على قدمٍ وساق، والحياة مستمرّة بحلوها ومرّها. وفي حال برزت "عُقَد" هنا أو هناك، فـ"المخارج" جاهزة أيضًا، تحت عنوان استمرار الدولة.

أي دولةٍ هذه التي يجب أن تستمرّ ورأسها غائب عن سابق تصوّر وتصميم؟ أيّ دولة هذه التي يجب أن تستمرّ وقادتها لا يستنفرون لمعالجة الخلل من جذوره؟ أيّ دولةٍ هذه ومكوّناتها تكمل حياتها بهذه البساطة ولا تفكّر، ولو لبرهة، بتعديل النظام، تفاديًا لهذه السيناريوهات؟

وأبعد من كلّ ذلك، من يتحمّل المسؤولية؟ أليس "المشرّعون" الذين يرفضون "تشريع" شيءٍ قد ينقلب ضدّهم في يومٍ ما؟ أليسوا هم من يعجزون عن إقرار قانونٍ انتخابي حضاري وعصري عن سابق تصوّر وتصميم خوفاً على "كراسيهم"؟ ثمّ أليست المشكلة في النظام الذي يعطي أصلاً النواب الحق في إقرار قانون انتخابي، وهم الذين لن يقدموا على أيّ "مغامرة" قد تطيح بمواقعهم بطبيعة الحال؟

يريدون الفوضى والخراب؟!

لا يكترث الكثيرون لكلّ مكامن الخلل هذه. النظام خط أحمر بالنسبة لهم. من يفكّر بالمؤتمر التأسيسي يسعى للمثالثة. من يخطر على باله تعديل الدستور والعبث ب​اتفاق الطائف​ يريد الفوضى والخراب ليس إلا. هو المنطق الذي يتسلح به كثيرون للأسف في دولةٍ تطلق على نفسها دون استحقاق لقب دولة القانون والمؤسسات، دولةٍ تحوّل نظامها إلى مقدّس يُمنع المسّ به، ولو أكل الدهر عليه وشرب.

130 يومًا والبلاد بلا رئيس لم تحمل هؤلاء على الإقرار بهذا الخلل. الأسباب سياسية، يقولون، ويضعون نقطة على السطر. كلّ شيءٍ مسيّس، لا يشكّ أحد بذلك. هذا فريق "8 آذار" يصرّ على مرشحه غير المعلَن العماد ميشال عون، وهذا حقه المشروع. الدستور "المثالي" يسمح له بتعطيل النصاب، وهو يمارس هذا الحق المشروع أيضًا. مناصرو "التيار" يعوّلون على وقوف "حزب الله" بجانبهم، وقياديوه يقولون أنّ الثقة به كبيرة. هم يستبعدون سقوط أيّ مرشح بـ"الضربة القاضية الإقليمية". في المقابل، فإنّ فريق "14 آذار" يستمتع بتحميل خصومه المسؤولية، وهذا حقه المشروع. لدى هذا الفريق مرشح معلن وآخرون مستترون ينتظرون أدوارهم. هو يحضر كلّ الجلسات "المفترضة" للانتخاب بكامل العديد والعتاد، لكنّ النصاب "يخذله".

هكذا، تنتهي القصّة بتبادل الاتهامات والمسؤوليات، ونقطة على السطر أيضًا. هذه هي هواية السياسيين اللبنانيين المفضّلة أصلاً، إلى أيّ فريقٍ انتموا. لا يوجد أجمل من تقاذف الكرة بالنسبة إليهم، ولو كانوا متواطئين ضمنًا على الوصول إلى النتيجة نفسها. لتكن النتيجة السلبية، أيًا تكن، المهم أن يظهر "الحق" على "الآخر".

لا حلّ سوى بالمؤتمر التأسيسي..

كلّ ذلك يُفضي إلى الخلاصة القديمة الجديدة نفسها. كلّ الطرق لا تفضي إلا إلى المؤتمر التأسيسي. أصلاً، بات الكثيرون من المنظّرين ضدّ هذا المؤتمر في العلن يروّجون له في السرّ، كيف لا والنظام اللبناني يثبت انهياره يومًا بعد آخر.

كلّ الطرق لا تفضي إلا إلى المؤتمر التأسيسي، مؤتمر لا يفترض أن يُحكَم عليه بـ"الذبح" على الطريقة "الداعشية" السائدة اليوم قبل وقته، مؤتمر يذهب إليه الجميع بإرادة جادة وحقيقية بالتغيير بدل الأحكام المسبقة. كلّ "الفزّاعات" التي تُستخدَم من مثالثة وغيرها تسقط حين يكون "التوافق" عنوان مثل هذا المؤتمر، تمامًا كما تسقط عندما يسقط "الحلّ الإقليمي" علينا بـ"المظلة" من الخارج، ويصدّق عليه كلّ رافضي مثل هذا المؤتمر.

لا حلّ سوى بمؤتمرٍ من هذا النوع إذًا، ولتتغيّر تسميته إذا كان البعض "حسّاسًا" تجاهه، ولكنّ الأكيد أنّ النظام بشكله الحالي لم يعد قادرًا على الاستمرار في وجه كلّ "العواصف"..