يطغى على المسيحيين في لبنان هاجس المستقبل في ظلّ التغييرات العنيفة في محيطهم المشرقيّ، وهم جزء عزيز منه، بل جزء مضيء، حملوا على مناكبهم همّ المسيحيين العرب، ونطقوا باسمهم وباسم قضاياهم بدءًا بقضيّة فلسطين، فإذ بهم ممزّقون بنيويًّا، لا يملكون قراءة جريئة تخرجهم من تمزّقهم وانقساماتهم في ظلّ العواصف الهوجاء الهابّة من العراق إلى سوريا.

وفي نظرة تاريخيّة، قرأ المسيحيون العرب قوّتهم واستقرارهم، من قوّة المسيحيين في لبنان واستقرارهم. لقد سالت الرؤية على صفائح ورقيّة تحمل تواقيع مسيحيين عرب من سوريا وفلسطين ومصر، رأوا أنّ الامتياز الكبير لمسيحيي لبنان يحفّزهم على الحراك في سبيل بقاء تلك الدول العربيّة والمشرقيّة على تنوّعها، وعلى استقرار الديمقراطية التشاركيّة في رحابها ولو بحدّها الأدنى.

الطامة الكبرى، أنّ مسيحيي لبنان، لم يقرأوا ويفقهوا بعمق هذا التماهي الحسّاس والشفّاف بين موجوديتهم وامتدادها إلى دنيا العرب. ذلك أنّ تطورات كثيرة وخطيرة أوجعت المسيحيين في سوريا ومصر والعراق وفلسطين، وبقي الصمت مهيمنًا على مسيحيي لبنان. خطف المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم، وخطف كهنة، اعتداءات على معلولا بناسها وأديرتها، بتراثها ولغتها، وعلى وادي النصارى بقتل بعض من أبنائها، من دون أن ننسى معركة كسب على الحدود السوريّة التركية، فضلاً عن تهجير المسيحيين من أحيائهم في حمص وحلب، وتطويق بلدتي محردة والسقيلبية في حماه، واقتلاع المسيحيين من الموصل وسهل نينوى، وتفجير كنائسهم ومعالمهم، ومسيحيو لبنان صامتون بل مختلفون على توصيف تلك الأحداث بذهاب بعضهم إلى التخفيف من وطأتها فيما هي وجوديّة أفرغت العراق وتحاول إفراغ سوريا من مكوّن تاريخيّ ساهم بانبلاجهما، وتهدّد مسيحيي لبنان بالخطر الوجوديّ الكبير.

... ويهيمن الصمت عينه على المسيحيين، فيحجب عنهم القدرة على استقراء عملية تهجير الأكراد من عين عرب، وما يحمله هذا التهجير من تداعيات مربكة ونتائج خطيرة ليس على المستوى الكرديّ فقط، بل على مستوى المكوّنات المشرقيّة من العراق إلى لبنان. ذلك أنّ ما يحدث في عين عرب ينطلق بالإزاء مع مسألة عرسال وبريتال والقتال الدائر هناك. ويحتجب الفكر المسيحيّ القارئ والمحلّل على مستوى الأقطاب في تشخيص وتوصيف انعكاس التوازي والترابط في الجوهر ما بين معركتي عين عرب وعرسال. وقد دلّت الوقائع أنّ قتال "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" يحوي خطّة استراتيجيّة تحاول وصل الحدود التركيّة-السوريّة، بالحدود العراقيّة-السوريّة، والحدود اللبنانيّة-السوريّة لفكّ الطوق عن بعض المواقع ومحاولة التمدّد باتجاه ساحل المتوسّط. لم يظهر المسيحيون في لبنان حراكًا جديًّا قائمًا على رؤى فذّة تستجمع العناوين في إطار من المحافظة على الخطوط الحمر التي تعنى بالوجود وخصوصيّته وفرادته ودوره من لبنان إلى العالم المشرقيّ، بحيث ينطلق بالدرجة الأولى من المقارعة الفكريّة والسياسيّة بالتعاون مع قوى إسلاميّة جديّة في تحسّسها وتلمسّها لما يشكّله التكفيريون من خطورة واضحة على الوجود وعلى الميثاق اللبنانيّ وهو المحتوى الأخير لخطّ الاعتدال الحقيقيّ الحافظ لمسيحيي الشرق والضامن لديمومتهم.

لقد خلت القراءة المسيحيّة ببعض منعطفاتها من الجديّة والواقعيّة، وحلا لبعض القيادات المسيحيّة أن يسيروا بعكس ما تمليه الواقعيّة السياسيّة الضامنة لكينونة المسيحيين وديمومتهم بدءًا من مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ وصولاً إلى الموقف من الانتخابات الرئاسيّة. يشير سياسيّ مسيحيّ إلى مسؤوليّة كبرى على من سار في المشروع وانقلب عليه. فالمشروع وعاء صلب وازن يحرّر المسيحيين من ثقافة الاستتباع ومن ربق منهجية الاستيلاد في كنف المذاهب الأخرى ممّا جعل المسيحيين يذوبون ويصيرون نسيًا منسيًّا، أجراء وليسوا شركاء بحسب تعبير نائب رئيس المجلس النيابي سابقًا، إيلي الفرزلي، في إطار من الطائفيّة المتلاشية والفوضويّة والخالية من أيّ توازن منطقيّ يحافظ على أبجدية الميثاق وهيكليّته ويحقّق المناصفة الفعليّة. وفي الوقت عينه يستمرّ الذوبان عينه في التمديد للمجلس النيابيّ، والاستحقاق الرئاسيّ، إذ يُستمَدّ منطق التهجير والإخلاء بدبلوماسيّة ناعمة يحاول انتهاجها الرئيس السابق للحكومة سعد الحريريّ بالتماهي مع مسيحيين آخرين بتعمّد طرح الصفة الضبابيّة أي التوافقيّة على شخصيّة الرئيس وموقعه بتسوية تعيدنا وكما أشار الحريري، إلى تسوية 2007 التي زكّت العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهوريّة. في حين أن الشخصيّة الوفاقيّة هي التي تنبع من موقعه التمثيليّ القويّ، وتؤهّله، تاليًا، لنسج علاقات سويّة وعادلة مع الطوائف الكبرى استلهامًا للحالة الميثاقيّة الساطعة.

مسيحيو لبنان بين واقعين، إمّا أن يتخلّوا عن الواقعيّة المطلقة في تكوين وجودهم من جديد كآخر مطلّ باق للمسيحيين العرب، فيتلاشوا، ويتلاشى معهم لبنان في وهج ما يرسم لهم من دوائر إقليمية وعربيّة ودوليّة، منها من يمعن بتهجيرهم، ويقف موقف اللامبالاة أمام مأساتهم وتمزّقهم، أو أن يقفوا وقفة وجوديّة واحدة على الرغم من التنوّع السياسيّ فيما بينهم بوجه ما يحاك لهم، ناظرين إلى المستقبل برجاء كبير، ومشدّدين على رئيس يمثلّهم بكل ما للكلمة من معنى، مصرّين على مشروع انتخابيّ ينهي انسحاقهم ويؤمّن قيامهم ونهضتهم لمصلحة دولة لبنان الميثاق والوجود بالتكامل مع سائر المكوّنات، ولمصلحة ديمومة المسيحية العربيّة والمشرقيّة على الرغم موتها في العراق وفلسطين، ولكنّها مسيحية القيامة.