أطاحَ التصعيد المتبادل بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية آمالاً عُقدت أخيراً على البلدين للمساعدة على تفريج الأزمة ال​لبنان​ية وبقيّة الأزمات التي تضرب المنطقة، وطرحَ تساؤلات كثيرة حول ما يمكن أن يؤدّي إليه، أيكون تصعيداً جديداً لهذه الأزمات أم تفريجاً لها على قاعدة «إشتدّي يا أزمات تنفرجي»؟

الواقع أنّ الديبلوماسية في كلّ من الرياض وطهران اتّسمَت دوماً بالهدوء والكتمان والرصانة حتى في عزّ الأزمات بين البلدين أو بين كلّ منهما وبين الدول الأخرى في المنطقة والعالم.

إذ لم يسجّل يوماً على مستوى العلاقة بين هاتين الدولتين العُظميين في الاقليم أن خاطبَت إحداهما الأخرى بتعابير خارجة عن المألوف الديبلوماسي حتى إزاء قضايا أمنية وسياسية كبرى، فكانت الانتقادات المتبادلة تُصاغ بلغة ديبلوماسية هادئة مخفّفة اللهجة وتبعث على الاعتقاد لدى قارئيها أو سامعيها أنّ كلّاً من البلدين يحرص دوماً على عدم «كسر الجرّة» ويحفظ «خط الرجعة» مع الآخر.

ولكنّ اللغة التي استخدمها الطرفان قبل ايام جاءت مناقضة كلّياً للمناخ الايجابي الذي ساد العلاقة بينهما إثر اللقاء الأخير بين وزيري خارجية البلدين الامير سعود الفيصل ومحمد جواد ظريف على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للامم المتحدة في نيويورك، وأوحى هذا المناخ انّ العلاقة بين طهران والرياض ستشهد مزيداً من الازدهار في المدى المنظور، بما ينعكس إيجاباً على كلّ القضايا والأزمات التي تعيشها المنطقة.

ففي نيويورك قال الفيصل «إنّ السعودية وإيران دولتان تتمتعان بنفوذ في المنطقة، والتعاون بينهما سيكون له آثار واضحة في إقرار الامن الاقليمي والعالمي». فيما قال ظريف: «نعتقد أنا ونظيري السعودي أنّ هذا الاجتماع سيكتب الصفحة الأولى من فصل جديد في العلاقات بين بلدينا». وأضاف: «نأمل ان يساهم هذا الفصل الجديد بفعالية في إقرار السلام والامن الاقليمي والعالمي ويؤمّن مصالح الامم المسلِمة في أنحاء العالم».

غير أنّ هذه الإيجابيات تبدّدت على ما يبدو بعد تقدّم الحركة الحوثية في اليمن التي تحظى بدعم ايراني عبر سيطرتها على صنعاء والضغط للإتيان برئيس حكومة يواليها، الأمر الذي أزعجَ الرياض وجعلها تعتقد أنّ إيران تحاول مقايضتَها بين ما حصلت عليه في العراق من إقصاء لنوري المالكي وإعطاء المكوّن السنّي في الحياة السياسية العراقية حقائبَ وزارية وامتيازات تُشعِره بالمشاركة الفعلية في القرار، وبين اتّساع رقعة نفوذها في اليمن من خلال الحركة الحوثية وصولاً إلى مضيق باب المندب، فتصبح في هذه الحال ممسكة بهذا المضيق كإمساكها بمضيق هرمز، ويشكّل المضيقان في هذه الحال طرفي «هلال النفوذ الإيراني»، أو «الهلال الشيعي» الذي تحدّث عنه ملك الأردن عبدالله الثاني قبل سنوات.

علماً أنّ الحوثيّين كانوا يطمحون منذ زمن طويل ليكونَ لمناطقهم في صعدة منفذٌ على البحر الأحمر، لأنّه كما يقول البعض إنّ «من يملك منفذاً على البحر الاحمر وباب المندب إنّما يملك العالم».

والانزعاج السعودي من التطور اليمني عبّرَ عنه الوزير سعود الفيصل بدعوته ايران الى إنهاء ما سمّاه «إحتلالها» في اليمن وسوريا والعراق. وقال «إنّ إيران تحتلّ سوريا، وعليها سحب قواتها، وإنّ الأمر ينطبق أيضاً على الوجود الإيراني في العراق واليمن».

فردَّ عليه مساعد وزير الخارجية الايرانية امير حسين عبد اللهيان الذي كان زار الرياض قبل اسابيع: «إنّ ما نُقل عن وزير الخارجية السعودي بأنّ إيران تحتل سوريا يتعارض مع أجواء المحادثات بين البلدين». وأشار الى أنّه «إذا أنهَت السعودية وجودها العسكري في البحرين فذلك سيؤدّي إلى تحقّق حلّ سياسي لبدء الحوار الوطني».

لكنّ رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني علاء الدين بروجردي ردّ على الفيصل، بطريقة تناوَله فيها شخصياً بالإشارة الى «مرضِه وشيخوخته»، معتبراً «أنّ مصطلح «المحتل» إنّما يليق بالقوات السعودية».

ويرى المراقبون أنّ البناء على هذا التصعيد السعودي ـ الايراني المتبادل يقود لبنانياً وإقليمياً الى التشاؤم حول مستقبل الاوضاع في المنطقة عموماً. فلبنانيّاً يبدّد هذا التصعيد الآمال المعقودة على لحظة تفاهم جديدة بين الرياض وطهران تُمكّن الأفرقاءَ اللبنانيين من انتخاب رئيس جمهورية جديد مثلما حصلَ في شباط الماضي، حيث أتاحَ تفاهم تلك اللحظة بين البلدين تأليفَ الحكومة السلامية بعد تعثّر دام عشرة أشهر.

كذلك يثير هذا التصعيد الايراني ـ السعودي قلقاً من تزايد تداعيات الأزمة السورية على لبنان، إلى حدّ أنّ البعض بدأ يتخوّف من تجدّد أعمال التفجير، بما يطيح الاستقرار الهَشّ الذي تشهده البلاد ويعلن المجتمع الدولي حرصَه عليه.

أمّا إقليمياً فإنّ هذا التصعيد يبدّد كلّ ما قيل عن حصول تسوية إقليمية كبرى بدأت بتأليف الحكومة العراقية الجديدة بعد إزاحة نوري المالكي التي كانت إحدى المطالب السعودية والخليجية، إلى جانب تأليف حكومة وحدة وطنية يكون فيها للمكوّن السنّي العراقي حصّة وازنة على مستوى الوزارات السيادية.

غير أنّ سياسيين متابعين يعتقدون أنّ هذا التصعيد بين طهران والرياض لن يطول، لأنّ كلّاً من البلدين يرفع سقف شروطه، ولكن ليسا في وارد الوصول الى صِدام يدركُ البَلدان خطورتَه على المنطقة كلّها، فالتفاهم بينهما يحقّق شبكة أمان لهذه المنطقة فيخرجها أوّلا من دوّامة الفتنة المذهبية، ويفتح ابواب الحلول لأزماتها. فضلاً عن أنّ هناك اقتناعاً لدى كلّ الجهات الاقليمية والدولية الفاعلة بأن لا حلول يمكن ان تنجح في المنطقة ما لم تكن الرياض وطهران شريكتين فاعلتين في صنعها.

فهل يكون التصعيد المستجدّ بينهما محكوماً بمقولة «إشتدّي يا أزمة تنفرجي»؟