في لبنان التاريخ يعيد نفسه. لم تكن النظرة إلى الجيش اللبناني يوماً من السياسيين من منطلق استراتيجي وطني، إنما تبعاً للمصالح الخاصة للسياسيين. تحاول بعض القوى السياسية استعادة الحقبة الماضية من تاريخ لبنان عندما كانت فئات لبنانية تعادي الجيش، وحين كان مشرذماً ومقسّماً، علّها تنجح في شقه وتفكيكه وضرب معنوياته مجدداً. وما يواجهه الجيش في عرسال اليوم ليس جديداً طالما القرار السياسي خارج لبنان.

ما يعترض تسليحه أيضاً ليس جديداً بل هو يعود إلى فترة أوائل التسعينات، أي إلى أيام الرئيس الراحل رفيق الحريري، الذي كان يحاول منذ بداية عهده تمرير بعض الصفقات من عمليات التسليح التي لا تتعدّى أصلاً السلاح التقليدي، فالقرار الدولي لا يسمح منذ ذلك الحين بسلاح قوي يقاتل "إسرائيل".

اليوم ربما القرار بالعمليات العسكرية وصد العدوان الإرهابي في السلسلة الشرقية ليس بيد قائد الجيش، وربما تسليح الجيش ممنوع عليه بذرائع متعددة. ولكن لا يمكن لهذا الجيش في هذه المرحلة أن ينشق على غرار ما حصل في عام 1975 وعام 1982، على رغم الحالات الانشقاقية التي ظهرت إلى الواجهة مؤخراً. فرئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود بنى، عندما أصبح قائداً للجيش في عام 1989، عقيدة وطنية على رغم كل المعوقات والصعوبات التي اعترضت طريق دمج الجيش اللبناني الذي كان كل لواء فيه تابعاً لزعيم سياسي. التركيبة التي تشكلت بها الألوية منعت الانشقاق. لم يرضخ العماد لحود لأي من الضغوطات السياسية المحلية أو الإقليمية، وكان ردّه على ذلك: "إذا لا تعجبكم القرارات التي أتخذها أقيلوني".

يستذكر الرئيس لحود مع "البناء" التي أصبحت وجبة أساسية مع بزوغ كل صباح يتصفحها من الصفحة الأولى إلى الصفحة 16، والتي باتت تغنيه عن عدد من الصحف، فخصها ببعض من محطاته الوطنية ولقاءاته الأحبّ على قلبه، كيف تمّت عملية دمج الجيش غصباً عن الرئيس الياس الهراوي الذي كان رافضاً لدمجه وكان يحاول منع ذلك بشتى الطرق.

نجح لحود في توحيد الجيش وجعله مؤسسة قوية قادرة على بسط سيادتها وتوفير السلم الأهلي، حوّله من ألوية طائفية إلى ألوية وطنية تتنقل من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. باءت كلّ محاولات الهراوي الاستنجاد يومذاك باللواء غازي كنعان وعبدالحليم خدام وبالراحل العماد حكمت الشهابي للضغط على الرئيس لحود (قائد الجيش في حينه) لوقف الدمج أقله ثلاث سنوات، بالفشل. فلحود كان وضع مهلة شهر لدمج الألوية في الجيش وهذا الذي حصل. صدر الأمر في اليوم التالي بدمج الجيش في المتن، بعدما كان دمج أول فوج تدخل عندما كان في الغربية عام 1990 ليعم الدمج مختلف المناطق اللبنانية.

معادلة الجيش والشعب

والمقاومة ترسّخت في 1991

بنى الرئيس لحود عقيدة بوصلتها مصوّبة باتجاه "إسرائيل". تصدى لقرار مجلس الوزراء إرسال الجيش إلى الجنوب عام 1991 لضرب المقاومين الذين كانوا بنظر الهراوي والحريري مسلحين. يومذاك أرسل الحريري بطلب لحود وأبلغه أن قراراً سيصدر من المجلس الأعلى للدفاع بضرب المقاومة والمطلوب منك تنفيذ العملية بالتعاون مع القوات الدولية، وأنت غير مسؤول وتصبح رئيساً للجمهورية بعد سنتين، وهذا طلب سوري وكنت في الشام وهذا ما طلبوه مني أن أخبرك به. رفض لحود الأمر قائلاً: أنت تطلب مني ضرب اللبنانيين الذين يريدون العودة إلى بلداتهم فهل ما تريدونه حرباً أهلية جديدة. لن أقبل. عندما صدر قرار من المجلس الأعلى للدفاع بضرب المقاومة في الجنوب في عام 1993، انسحب لحود من الجيش وذهب إلى بعبدات. بعدما كان ترك الجيش في عهد الرئيس أمين الجميل، لأن الجميل كان يريد بواسطة قائد الجيش نقله من مدير أفراد إلى الجمركجية في المطار، ولم يلتحق بالخدمة. إلى أن أعاده إلى الجيش وزير الدفاع عصام خوري يومذاك، كما ترك الجيش في عهد العماد ميشال عون في حزيران 1989 وبقي أربعة أشهر خارج الجيش إلى أن عين قائداً للجيش.

صان الرئيس لحود المقاومة ورسّخ منذ عام 1991 معادلة الجيش والشعب والمقاومة. لم يكن القرار السوري الذي تحدث عنه الحريري بضرب المقاومة صادراً بموافقة الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي طلب التعرف إلى لحود بعد أربع سنوات من توليه منصب قائد الجيش، وقال له حين التقاه لماذا لم تنفذ، فردّ لحود كيف سأضرب أهلي الذين يريدون العودة إلى ضيَعهم، عندها ضحك الرئيس الأسد مطوّلاً وقال نحن من المتابعين لك منذ أن كنت تلميذ ضابط. وعندما خرج لحود قال له اللواء كنعان: "ماذا دار بينك وبين الرئيس الأسد"؟ ردّ لحود: "اسألوه أنتم"، ليكون اللقاء الطريق لوصوله إلى سدة الرئاسة.

الجيش في التبانة

والسنّة لن يتركوا الجيش

أدخل العماد لحود الجيش إلى التبانة في طرابلس التي كانت بمنأى عن دخول الجيش منذ أيام العثمانيين لم يهَب أحداً، على عكس ما يجري راهناً، من محاولات لمنع الوحدات العسكرية من إلقاء القبض على الإرهابيين، بذريعة أن الجيش لا يستقوي إلا على "السنة".

وعلى عكس كل ما يشاع عن أن السنة ربما يتركون الجيش مع الوقت. يجزم لحود أن السنّة لن يتركوه. فنحن نرى ونسمع أن من يفر من الجيش أهله يتبرّأون منه.

بين الأشرفية وعرسال... إرادة

ما يحصل اليوم في عرسال. حصل في عهد الرئيس لحود في الفترة الأولى من توليه قيادة الجيش، حين قرر دخول الأشرفية حيث كانت الاشتباكات تدور بين العماد ميشال عون وبين ميليشيا "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع يومها. بيد أن المفارقة أنّ لحود لم يرضخ للقرار السياسي في تلك الحقبة والقاضي بانتشار الجيش في الطريق الرئيسي في الأشرفية فقط دون غيره على رغم كلّ استنجادات الرئيس الراحل الهراوي باللواء كنعان. دخل الأشرفية قوياً متحدياً القرار السياسي الذي من شأنه ضرب هيبة الجيش. أما اليوم فالجيش بحاجة إلى أمر ليدخل البلدة، التي لا تزال بيد المسلحين.

يشعر لحود أنّ لبنان في خطر وجودي كبير، فهناك معاهدات بين لبنان وسورية تستطيع سورية عبر طيرانها قصف المسلحين بالتنسيق مع الجيش اللبناني. ويشير لحود إلى أنه دعا منذ سنتين إلى تنفيذ الاتفاقيات مع سورية، لا سيما أن الوضع في عرسال لن ينتهي أبداً، طالما أن المسلحين في الجرود سوف ينزلون نزولاً باتجاه البلدة فليس من مخرج لهم إلا لبنان، إذ ليس باستطاعتهم الذهاب باتجاه سورية. يطالب الرئيس لحود بإعطاء الجيش أمراً بالدخول إلى عرسال، والتنسيق مع الجيش السوري لمحاربة المسلحين لأن الأمور إذا بقيت على هذه الحال يعني أن "داعش" ستدخل.

ولما كان الجيش بحاجة إلى عتاد للقتال، فإنّ المطالبة بالتسليح تبدأ مع كلّ عهد جديد، إلا أنّ العماد لحود يومذاك ولعلمه بالصفقات التي كانت تحصل منذ أن كان مدير عام الدفاع مع الوزير عادل عسيران في عهد الرئيس أمين الجميّل. لم يسمح بتمرير أي صفقة، على رغم أن التسليح كان وفق الأجندات الخارجية. وعليه فإن ما يمنع تسليح الجيش اليوم، منع تسليحه في السابق. إلا أن لحود تمكن في عهده، من الحصول على سلاح من سورية التي كانت توفر له كل ما يحتاجه، ومن الولايات المتحدة التي بعثت له عبر سفيرها في لبنان ريان كروكر أن هناك قاعدة في ألمانيا تريد إغلاقها وسحب الآليات فيها لكن كلفة نقلها باهظة فعرض عليه شراء الآليات العسكرية بكلفة النقل فقبل العرض وأرسل خبراء لتقصي حالة الآليات، فكانت تكلفة 5000 ملالة التي يستعملها الجيش اللبناني 5000$ للملالة الواحدة والجيب بـ100$ فقط والشاحنة بـ200$ وعندها اشترى العماد لحود 15 ألف جيب 5000 شاحنة 3000 ملالة وعدداً من الهيلوكبتر. وهذه الأسلحة لا تزال حتى اليوم، وتقريباً كانت مجاناً، وليس لها مثيل في تاريخ لبنان، لأنها لم تدخل في بازار الصفقات التي حاول القيام بها الرئيس الحريري الذي عرض آليات ودبابات من السوفيات بعد انهياره، طالباً من لحود الذهاب واختيار السلاح الذي يريده وسيشتريه بالقرض، فرفض وقال له: "هل تريد مني أن أشتري سلاحاً من الحرب العالمية الثانية بثمن باهظ وغير معلوم، إنْ كان صالحاً لقتال إسرائيل أم لا. لن أقبل أن يسيء أحد إلى سمعة الجيش ويقول إنه يقوم بصفقات". محاولات الرئيس الراحل لم تتوقف علّ وعسى. إلا أنّ العماد لحود كان في المرصاد رفض مجدداً نظام الدفاع الجوي من بريطانيا الذي كانت كلفته 60 مليون جنيه استرليني والذي لا ينفع لمواجهة "إسرائيل".

لم يكلّ الحريري عن المحاولات، جرّب تمرير صفقة أجهزة توكي ووكي بقيمة 30 مليون دولار عندما أصبح الرئيس لحود رئيساً للجمهورية، إلا أنه مني بالفشل مجدداً. في مقابل ذلك كان الحريري يرفض على غرار تياره اليوم أي عرض إيراني لتسليح الجيش، فعندما عرضت الجمهورية الإسلامية على لحود هبة لتسليح الجيش وسار بالأمر، لم يأخذ الحريري الذي كان رئيساً للحكومة قراراً بالموافقة لكي لا يغضب الأميركيين. والحال كذلك اليوم، فعلى رغم خوض الجيش حرباً على الإرهاب في السلسلة الشرقية يرفض فريق 14 آذار الهبة الإيرانية غير المشروطة.

على رغم كلّ التحديات التي تواجه الجيش اللبناني، لا يزال تيار المستقبل على سياسته القائمة على ضرب معنويات الجيش، وضرب حقوقهم، من خلال عدم مساواة سلسلة العسكريين بسلسلة موظفي القطاع العام. وفي السياق يؤكد الرئيس لحود أن إعطاء الجميع السلسلة باستثناء الجيش يعني ضرب معنويات الجيش، مذكراً بأنه طالب بسلسلة العسكريين عندما كان قائداً للجيش ونجح بمساعدة الرئيس حسين الحسيني الذي كان رئيساً لمجلس النواب يومذاك في إقرارها بالقوة في مجلس النواب وأقرت بطريقة إذا استشهد الضابط، فإنّ زوجته تقبض وكأنه لا يزال على قيد الحياة، على رغم رفض الرئيس الهراوي للزيادة بإيعاز من الحريري من الخارج.

إلا أنّ السنيورة كما يقول لحود لا يزال على الموقف نفسه، من المؤسسة العسكرية، فهو بعد سنتين من إقرار السلسلة حاول إيقاف بعض التعويضات للعسكريين بقرار على رغم صدوره بقانون.

محطات وذكريات

لم يكن الرئيس لحود على تواصل بشكل مستمرّ مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. إلا أنّ التنسيق بينهما كان منهجياً ومبدئياً ومن دون أن يدريا لإيمانهما بالعمل المقاوم. مواقفه من المقاومة كانت تنبع من وطنيته الراسخة، من دون أن يتكلم مع أحد من قادة المقاومة.

لم يقابل الرئيس لحود السيد حسن نصرالله إلا ثلاث مرات: الأولى عندما زاره معزياً باستشهاد نجله السيد هادي، والثانية بعد التحرير في عام 2000 عندما زار السيد نصرالله الرئيس لحود. كلا اللقاءين لم يدوما أكثر من 30 دقيقة. أما المرة الثالثة فكانت بعد انتهاء ولايته الرئاسية، في منزل السيد نصرالله الذي احتفل بعيد ميلاد فخامة الرئيس المقاوم في 12 كانون الثاني، واضعاً على الطاولة قالب الكاتو.

استعرض الرجلان ذكريات الحقبة الماضية فقال السيد نصرالله للرئيس لحود: "نحن لم نتحدث مع بعض في أمور بالغة الاهتمام من قبل، لأول مرة نتحدث عنها اليوم". وذكّر السيد نصرالله لحود بما قاله في مجلس الوزراء عندما ضربت إسرائيل محطات الكهرباء: "إذا ضربت مجدداً بدنا نرجع نرد"، في الليل رد "الإسرائيليون" ونحن لسنا جاهزين وقلنا معقول رئيس جمهورية يقول ونحن لا نعمل، ولذلك ردينا على رغم عدم الجاهزية".

كما ذكر السيد نصر الله الرئيس لحود بموقفه الوطني من القرار 1701 في جلسة مجلس الوزراء التي عقدت يوم الأحد في نهاية حرب الـ33 يوماً على لبنان في 2006 الذي رفض خلاله دخول الجيش جنوب الليطاني ليأخذ سلاح المقاومة الذي عجزت "إسرائيل" عن أخذه بالقوة.

وسرد الرئيس لحود لـ"البناء" ما جرى في الجلسة المذكورة عندما كان السنيورة والوزراء باستثناء الوزيرين محمد فنيش ويعقوب الصراف، قد اطلعوا على القرار 1701، وطلب السنيورة يومذاك من قائد الجيش ميشال سليمان الحديث عن كيفية دخول الجيش جنوب الليطاني ليأخذ سلاح المقاومة. عندها طلبت من سليمان وقائد الأركان الخروج من الجلسة وقلت للسنيورة: "نحن ربحنا الحرب التي كان الهدف منها سحب سلاح المقاومة، وأنا لن أوافق على هذا البند، ليؤكد فنيش والصراف على ذلك أيضاً، عندها قال لي السنيورة: لديك 48 ساعة لدرس الجدول، الذي لم أكن مطلعاً عليه، وتأتي بالقرار في جلسة الثلاثاء، وكيف بعثت برسالة كانت الأولى للسيد نصر الله عبر الوزير فنيش قلت له فيها: لن آتي إلى الجلسة، فمن يأتي هو متواطئ مع الأعداء. وعندما قرأ السيد الرسالة علا صوته: أيعقل أن لا يوجد غير الرئيس لحود يرفع صوته في وجه ذلك، لترجأ الجلسة لعدم حضور فنيش والصراف أيضاً من الثلاثاء إلى الجمعة، والتي يوافق خلالها مجلس الوزراء على القرار 1701 من دون نزع سلاح المقاومة.

المنخار على المنخار

يتواصل الرئيس لحود مع رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون. التقيا مرتين على العشاء مرة في منزل لحود، ومرة ثانية في منزل النائب سليمان فرنجية. يقول الرئيس لحود إن الجنرال عون هو قائد وطني. ويذكّر بحادثة حصلت قبل تعيين العماد عون قائداً للجيش، حين اتصل به عون قائلاً: المنخار على المنخار أنا وأنت. في حال أنت أصبحت قائداً للجيش كأني أنا والعكس صحيح فردّ لحود مبروك إذا ما في غيري وغيرك".