وسط الغيوم الداكنة التي تحجب سماءَ الشرق الأوسط، ثمّة بريق أمل يلمع بخفَر، ما يُذكّرنا بمقولة إنّ الطريق الأقصر للوصول إلى الحلول تبقى عبر دفعِ الأوضاع إلى ذروة التأزّم.

في المنطقة تلتهب الساحات، والمواجهات لامسَت المحظور. «داعش» عند ابواب بغداد، والحوثيون يتحكّمون بالمعابر بين اليمن والسعودية بعدما فرضوا سيطرتهم على صنعاء. وعند الحدود الشمالية لسوريا تدور معركة مصيرية في كبرى المناطق الكردية، فيما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القلِق من انتفاضة الاكراد داخل تركيا، يبدو عاجزاً عن التقدّم في اتجاه سوريا تمهيداً لفَرض نفسه لاعباً إقليميا أوّلاً.

وفي جنوب سوريا، واقعٌ ميداني جديد وشريط حدودي يُلخّص العلاقة «الودّية» بين إسرائيل و«النصرة» التي تسعى إلى المقايضة بين استهدافها «حزب الله» ونشر الفوضى في ​لبنان​، وبين المساعدة لدخول دمشق وإسقاط النظام.

وما بين كلّ هذه المؤشرات الكبرى، التي تخفي في طيّاتها تحوّلات خطيرة، اهتزازات سعودية وتركية وصراع حادّ في الداخل الايراني بين رجال الثورة وأركان الدولة تحت عناوين كثيرة تتأرجح بين طريقة مقاربة الملف النووي وصولاً الى حتمية معالجة الأزمة الاقتصادية التي فاقمَها التراجع الحاد في الأسعار العالمية للنفط، المدخول شبه الوحيد لإيران الغارقة في حروبها المتعددة والمكلفة.

صحيح أنّ طيف الأزمة الاقتصادية التي هزّت العالم عام 2008 يلوح في الأفق مجدداً، وهو ما يؤثر بطريقة أو بأخرى بأسعار النفط، إلّا أنّه من السذاجة اختصار الأسباب في هذا الجانب فقط.

فالسعودية التي تنظر بقلق الى التطورات اليمنية ضاعفَت من إنتاجها النفطي في السوق العالمية، ما ساهمَ في تدهور الاسعار، خصوصاً أنّ «داعش» يعمل على اختراق الطوق الاقتصادي الهادف لتجفيف مصادر تمويله، من خلال بيع النفط في السوق السوداء بأسعار تكاد تكون رمزية.

المعادلة واضحة: ضغوط اقتصادية مقابل التهديدات العسكرية، في وقت تبدو المناعة الامنية والاقتصادية غير سليمة. حتى مع الجانب التركي الذي دخل بجموح طمعاً باقتناص الفرصة والجلوس في المقدمة لوحده، بدت معارك كوباني أزمةً لتركيا بمقدار ما هي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى أكراد سوريا.

فسقوط هذه البلدة في يد «داعش» المتفاهِم من تحت الطاولة مع أنقرة سيؤدّي حكماً الى اضطرابات داخلية في تركيا تفتح الأبواب امام استنزاف خطير. علماً أنّ انتصار الاكراد سيُكرّس دولتهم القابلة للتوحّد مع كردستان العراق وفتح شهية أكراد تركيا.

باختصار، الجميع في المأزق، ما يعني ولادة فرصة للحلّ، أو لخلق ترتيب ما يبرّد الأجواء العسكرية، ولو مرحلياً، على قاعدة ترضي الجميع. وهناك من يهمس بأنّ تحرّكاً دوليّاً ما بدأ في الكواليس لإنجاز هذا الترتيب خلال الاسابيع المقبلة. وعلى رغم «شِحّ» المعلومات، إلّا أنّ العارفين يتحدّثون عن تسوية قاعدتِها الأساسية، أي العراق، على الطريقة اللبنانية، أي «ترقيع» السلطة وتوزيع الحصص في إطار مدروس، في موازاة حلّ يَمني مشابه.

أمّا الملفّ السوري الذي يأتي في الدرجة التالية، فلا ضيرَ من تدوير الزوايا فيه بعد رسالة قوية وجّهتها واشنطن لتركيا من خلال نائب الرئيس جو بايدن.

ذلك أنّ العاصمة الاميركية تراهن على الضغوط التي يرزح تحتها كلّ أطراف الأزمة السورية للقبول في دخول مساومات جماعية وتنازلات مشتركة، على قاعدة بقاء النظام وإشراك المعارضة. وليس أمام لبنان سوى هذا الباب لفَكّ الأزمة السياسية التي تكاد تخنقه، وتبريد الأوضاع الامنية التي تُهدّد استقراره.

الجميع مقتنع بأنّ الصدام الإقليمي الكبير الحاصل ولّدَ الأزمات على انواعها في لبنان، وأنّ فكّ الاشتباك سيُرخي بإيجابياته عليه رسمياً في التفاهمات.

أضِف الى ذلك، أنّ الاوساط الديبلوماسية مقتنعة بأنّ الاطراف في لبنان تعيش بدورها المأزق الصعب.

فالاستنزاف الامني موجع ومكلف، ولا مصلحة لحلفاء السعودية في انهيار أمني اضافي يلزم «حزب الله» الإمساك بالارض اكثر، ولا مصلحة للحزب بدوره في أن يبقى يقاتل على أكثر من جبهة، فيما السلطة التنفيذية في لبنان تخضع لتأثير تيار «المستقبل».

إنطلاقاً من هنا، تعتقد هذه الاوساط، أو ربّما تأمل بحذَر، حصولَ خرق في الجدار الاقليمي وإنتاج تسوية موَقّتة، لا شكّ في أنّ لبنان يستفيد منها خلال الاسابيع المقبلة، وقد تكون مصر مؤهلة للعبِ دور الوسيط، نظراً لعلاقتها الممتازة مع السعودية وقنواتها المفتوحة مع دمشق و»حزب الله». وقد تشكّل جلسة التمديد لمجلس النواب عاملاً داخلياً مساعداً في هذا الإطار.

ففي الكواليس اللبنانية، تفاهمٌ على ترك جلسة التمديد الى الايام الخمسة الاخيرة من مهلة ولاية المجلس استناداً إلى مادة دستورية تُقلّص مهلة ردّ رئيس الجمهورية للقوانين التي لديها صفة الطارئة الى خمسة ايام. والهدف من التأخير تحضير المناخ الداخلي اكثر من خلال حشر الأوضاع واللعب على حافة الهاوية.

وقد يكون في ذهن الرئيس سعد الحريري استخدام هذه المناورة في لعبة الاستحقاق الرئاسي، تزامناً مع الرهان على انفراج اقليمي.

عندما عاد الحريري الى لبنان الصيف الماضي، كانت أحداث عرسال وأوضاع الساحة السنّية قد ألزمَته ذلك. وهو كان يفضّل أن تتزامن عودته مع إنجاز التسوية على رئاسة الجمهورية، والتي كان يعتقد أنّها اصبحَت قريبة جداً.

لذلك حضّر نفسَه للعودة مجدداً في ايلول ومعه مبادرة سياسية، لكنّ الامور تعقّدت، فأعلِنت المبادرة وبقيَ الحريري في الخارج ينتظر التوقيت المطلوب. ربّما هناك مَن يعتقد أنّ التوقيت اقترب هذه المرّة، أو هو يأمل ذلك.