لربع قرن خلا، كان موعد لبنان مع اتفاق، ولد من رحم ركام الصراعات وانفلاش حطام الأحداث ودرماتيكيّتها الصاعقة فوق تراب لبنان. المشهد السّابق للاتفاق يشبه إلى حدّ كبير، سورياليّة بيكاسو في لوحاته العبثيّة. أرض يباب، أحرقتها حروب، كتب على هذا البلد الصغير أن يكتوي بها. ثمّ فرضت عليها تسويات ومراحل تغييريّة في الشرق الأوسط، أعادت لبنان إلى وصاية سوريّة برضى أميركيّ وقبول سعوديّ، وقد كان الرئيس الراحل حافظ الأسد ذكيًّا حذقًا في اكتساب الرضى والتفويض، بتحالف وثيق مع الأميركيين في حرب تحرير الكويت، والتقاء سعيه ومصلحته بالمصلحة السعوديّة التي على أرضها أبرم الاتفاق.

لم يأت كلّ هذا عن عبث ولم ينحدر من علُ، لو لم تكن الأرض اللبنانيّة خصبة له، بسبب عبثيّة الصراعات المتراكمة. لم نعتد في مدى التاريخ السياسيّ اللبنانيّ اتفاقًا يجيء من ذاتيّتنا وعلى أرضنا، فتلك هي مأساة لبنان المحاط بمصالح خارجية تتماهى مع الداخل، وتستهلكه في تسويات ترميه تحت أيدي وكلاء، في وصايات لها مهل واضحة، أو تعيده، وكما كتب ذات مرة ميشال شيحا، على مفترق طرق تتصادم من جديد كما هو واقع الأحداث التي نعيشها.

هذا الاتفاق الذي كتب في مدينة الطائف السعوديّة نتيجة سعي اللجنة الثلاثيّة آنذاك، كان حالة تسوويّة وما هو بحركة تأسيسيّة وتكوينيّة لكيان تبعثر وتمزّق ولا يزال على الحال عينه. معظم المذكّرات التي كتبت آنذاك من شخصيات عديدة تقاطعت رؤاها عند هذا التوصيف. فلا هو عبّر عن تلاقي المكوّنات بصورة عضويّة مترابطة، ولا أسّس لدولة معطاة لنا من توازن موضوعيّ حيّ. بهذا المعنى، ليست القضيّة قضيّة نصّ بات دستورًا. ذلك أنّ المحاكاة ليست للنصّ وموادّه، بل للمعايير التي أنتجته والخلقيات التي بعثته، وأطلقته جسدًا مهشّمًا، مليئًا بالثقوب والفجوات حتّى أمسى فاقد الوجه والحركة. كما أنّ إقراره عبّر عن غلبة فريق على آخر، تمّت ترجمتها بسياقات عديدة متواصلة ومتراكمة هي موضع شكوى دائمة من فريق لا يزال يشعر بالغبن والظلم على مستويات عديدة، سياسيّة وأمنيّة وإداريّة وتوظيفيّة.

المعايير والخلفيّات في ظلّ الواقعيّة السياسيّة تبقى فوق النصّ، وهي باقية فوقه وإن تبدّلت قواعدها بانكسار الاتفاق الأميركيّ-السوريّ، وانفراط المعادلة الثلاثيّة في ظلّ هذه العاصفة. فقد أسرت الكيان اللبنانيّ، وجعلته لربع قرن مرتبطًا باتفاق أميركيّ-سوريّ، ومعادلة سوريّة-سعوديّة ومصريّة، تقاسمت الداخل على حساب المسيحيين المكتوين بصراعاتهم العبثيّة، والتي حتّمت هزيمتهم، وأوصلتهم نحو الإحباط ليظلّوا "مستولدين في كنف الآخرين"، والتعبير الأخير هو الأصحّ في مدى التشخيص. وهي التي (أي المعايير والخلفيّات) جوّفت النصّ الدستوريّ ورضّضته لتثبت أنّه وئد حين ولد منذ لحظة إقراره. تلك قناعة دفينة عند معظم من قرأوا الحالة المكوّنة للنصّ والمكنونة في السياق اللبنانيّ، ذلك أنّه جثّة موؤودة ومدفونة في رمال صحراويّة، يكفي على سبيل المثال لا الحصر، وفي المادة 49 من الدستور، أن يلاحظ القارئ تناقضًا واضحًا وفاضحًا في تحديد صلاحية رئيس الجمهوريّة حيث هو "القائد الأعلى للقوات المسلّحة والتي تخضع لسلطة مجلس الوزراء"، التناقض جليّ بين قيادة فارغة من محتوى الإخضاع ليمارسه "بسلطته الدستوريّة" مجلس الوزراء استنادًا لمنطق المادة 65 والتي تقول: "تناط السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء"، ممّا قد يقود إلى استنتاج محتمل، بأنّ رئيس الجمهوريّة الذي يحضر ساعة يشاء بحسب منطوق المادة 53 دون أن يشارك في التصويت، هو الرئيس التوافقيّ الذي يشبه ملكة بريطانيا العظمى راعيًا وليس حاكمًا. استلب السلطة فعليًّا رئيس الوزراء بفعل التطبيق السياسيّ، أي بالمعايير والخلفيّات التي رسمت بفعل الاتفاق والتفويض، وبخاصّة بعد سقوط حكومة عمر كرامي. وبسبب ذلك أبطلت المناصفة الفعليّة بفعل التجاوز المشار إليه والتي نصّت عليها المادتان 24 و95 من الدستور بفعل الخلفيّات التي ترجمت سياسيًّا بتكريس السنيّة السياسيّة والشيعيّة السياسيّة على حساب ما سمي بالمارونيّة السياسيّة.

بعد ربع قرن، ومع تراكم الأحداث من سنة 2000، إلى حقبة ما بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، إلى الصراع السنيّ-الشيعيّ المتفجّر في المدى العربيّ والمشرقيّ، وصولاً إلى الفراغ في سدّة الرئاسة وعدم إقرار قانون انتخابات، لا يسوغ القول بأّنّها أسباب موجبة للانقلاب على الطائف كما حلا للدكتور ألبير منصور أن يؤلّف وهو على حقّ، بل هي أسباب موجبة نتجت في الأصل من أنّ الطائف لم يوجد ليكوّن، وجد لينهي حقبة سياسيّة مليئة بحروب متنقلة بتسوية هشّة زادت لبنان عطبًا وكسرت منطق الرئيس المغفور له صائب سلام، حين قال لا غالب ولا مغلوب في لبنان. ثمّ مهّدت الطريق لانفجارات عديدة تكشّفت تباعًا انطلاقًا من الإمساك المتعدد الأطراف بالنظام السياسيّ اللبنانيّ، وعدم أخذه نحو التماسك الداخليّ، بل على العكس تمامًا، لقد أخذ نحو التمزّق الوجوديّ، وبقي لبنان أسير الفراغ "على مفترق طرق وعرة وصعبة"، ما بين الشام والخليج وإيران، وأميركا وروسيا.

إلى أين من هنا وفي ظلّ هذا التراكم الكبير والمخيف؟ ليس من جواب واضح بحسب توصيف سياسيّ مخضرم. لبنان وبحسب التوصيف عينه، في حالة انتظار تدخله في تسوية جديدة، ربما ملامحها بدأت تظهر رويدًا رويدًا بدءًا من اليمن. لبنان ماضٍ من تسوية إلى أخرى لكونه بلد تسويات. أمّا المسافة بين واحدة وأخرى فهي الهاوية والرمال المتحركة. ربّما بات لزامًا على اللبنانيين بمختلف قياداتهم أن يقودوا لبنان إلى قراءة تكوينيّة وتأسيسيّة ميثاقيّة واقية له قائمة على المناصفة الفعليّة في المادة 95 من الدستور، مع إعادة الاعتبار إلى دور رئيس الجمهوريّة بصلاحيات موسّعة. فنستعيد الميثاق بلغة لبنانيّة ومشرقيّة نحسن به التطلّع إلى وطن جديد لا يلده الآخرون بتسوياتهم بعد حروبهم بنا، بل نلده نحن بقراءة جديدة متأصّلة بأرض تستحقّ الحياة.