فوجئ كثيرون بالتبدّل السريع في طريقة تعاطي المسؤولين الاميركيين والأتراك مع المعارك الدائرة بين «داعش» وبين الكرد المدافعين عن مدينتهم عين العرب (كوباني).

فبعد أن كان إنقاذ «عين العرب» خارج أولويات الاستراتيجية الاميركية في حرب التحالف ضد «داعش»، أرسلت قوات هذا التحالف مساعدات عسكرية وإنسانية عبر الجو الى اهل المدينة المحاصرة.

وفي الوقت نفسه أعلن رئيس وزراء تركيا احمد داود اوغلو انّ بلاده تسهّل مرور قوات البشمركة الكردية من العراق الى عين العرب لنصرة المدافعين عنها، بعد ان كانت حكومته تعتبر الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري تنظيماً ارهابياً لا يختلف عن تنظيم «داعش»، بل انه الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله اوجلان المسجون منذ سنوات لدى السلطات التركية.

تفسيرات عدة أعطيَت لهذا التبدّل، منها انّ صفقة ما قد عقدت بين رئيس الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري صالح مسلم وبين مسؤولين اميركيّين خلال اجتماع مشترك في باريس تردّد انّ مسلم قدمّ خلاله تطمينات للادارة الاميركية مقابل تدخّل قواتها الجوية لقصف تجمّعات «داعش» المتقدمة في عين العرب.

والبعض الآخر فَسّر هذا التطور السريع في الموقف الاميركي بأنه جزء من الاستراتيجية الاميركية المعتمدة في سوريا والعراق والمنطقة عموماً، والتي تقوم على ادارة الازمات لا حلّها، وعلى قاعدة أن «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم»، لكي تبقى المنطقة ملتهبة تقدّم كل يوم عشرات الضحايا من ابنائها العرب وغير العرب والمسلمين وغير المسلمين.

غير انّ التفسير الأكثر منطقية، الذي لا ينفي التفسيرات الأخرى ولكنه يتقدّم عليها، هو انّ صمود المقاتلين والمقاتلات الاكراد في الميدان هو السبب الرئيسي لهذا التغيير المفاجئ، فواشنطن لا تريد الظهور بمظهر الساكت عن «داعش» فيما «داعش» عاجزة عن هزيمة المدافعين عن مدينة كردية، بل انها تسعى الى استثمار هذا الصمود في اطار سياسة قديمة ـ جديدة لاستخدام كلّ الاوراق بهدف ابتزاز جميع الاطراف، والادارة الاميركية هي اكثر مَن يجيد هذه اللعبة، خصوصاً انّ فيها آراء واتجاهات عدة، فتعمل على استغلال تعدد الاتجاهات لتوزيع الادوار في خدمة سياستها.

ويكاد التفسير نفسه ينطبق ايضاً على التذبذُب في الموقف التركي الرسمي ممّا يجري في عين العرب، خصوصاً انّ تداعيات المعركة الدائرة هناك قد انتقلت الى قلب تركيا نفسها، وكذلك الى قلب حزب «العدالة والتنمية» الحاكم إيّاه، حيث لا يُخفي معارضو اردوغان داخل حزبه انتقادهم له ولرئيس وزرائه على هذه السياسات التي بدأت باستراتيجية «صفر مشكلات» لتصبح صفر مكاسب، بل ليزداد منسوب السلبيات المرافق هذه السياسة.

وعلى رغم أنّ المدافعين عن «داعش» يحاولون تصوير التبدّل في موقف واشنطن وتحالفها بأنه ظاهري، فإنهم يتجاهلون انّ هذا التبدل المتأخّر لم يأتِ الّا بعد صمود لجان حماية الشعب الكردي في عين العرب. ويدرك هؤلاء المدافعون انّ ما يجري في تلك المدينة ستكون له آثار وتداعيات على وضع «داعش» في المنطقة كلها.

فصمود عين العرب أثبتَ أنّ «داعش» ليست ظاهرة خارقة واختراقية ويصعب الوقوف في وجهها، بل انّ مجموعة من المقاتلين في مدينة محاصرة حَوّلوا اجتياحاتها السابقة في العراق وسوريا مأزقاً تَسمّرت معه قواتها المهاجمة لهذه المدينة الكردية السورية.

وما يزيد من مخاوف أنصار «داعش» وداعميها العلنيين والسريين هو انّ «داعش» واخواتها واجهَت ايضاً صموداً مماثلاً في غزواتها التي استهدفت السلسلة الشرقية من جبال ​لبنان​، حيث تمكّن الجيش اللبناني ورجال حزب الله من إغلاق ثغرات عدة حاول المسلحون المتطرفون النفاذ منها الى بلدات وقرى في البقاع الشمالي.

ويعتقد محللون استراتيجيون انّ ما يجري في عين العرب السورية وفي جرود بريتال وعرسال ورأس بعلبك والقاع اللبنانية يمكن ان يتحوّل بداية عدّ عكسي لمشروع «داعش» واخواتها في المنطقة كلها، بما في ذلك العراق، حيث يستطيع العراقيون، اذا توافقوا وتفاهموا وتجاوَبوا مع مطالب الفئات العراقية المهمّشة منذ الاحتلال الاميركي لبلاد الرافدين، أن يحاصروا «داعش» التي توقفت اندفاعاتها بعد استقالة حكومة نوري المالكي لتعود وتندفع مجدداً بعد تَعثّر تشكيل الحكومة والعجز عن تعيين وزيرَي الدفاع والداخلية في الحكومة الجديدة.

ومن هنا، فإنّ تعيين هذين الوزيرين قبل يومين في المنصبين الامنيين الرئيسيين في البلاد، أحدهما من كتلة «بدر» والآخر من ضبّاط الجيش العراقي السابقين، يمكن ان يشكّل بارقة أمل في اتجاه تنفيس الاحتقان العراقي الداخلي، والذي كان المدد الاساسي لـ»داعش» وأمثالها في هجماتهم على المدن والبلدات في غرب العراق وشماله.

وليس من قبيل المصادفات ان يقسم الوزراء الاكراد الجدد اليمين الدستورية في جلسة تصويت البرلمان العراقي على وزيري الداخلية والدفاع، فالاحزاب الكردية، على رغم تحوّلها خصماً آخر لـ»داعش» بعد هجومها على أربيل ثم على عين العرب، كانت قد جَمّدت موافقتها على المشاركة في الحكومة في انتظار الاتفاق على هذين الوزيرين اللذين شَغلا منصبَين كانا يُداران بالوكالة طوال ولاية حكومة المالكي السابقة.

ومن هنا، لا يستبعد المراقبون ان يشكّل الصمود الميداني في المنطقة الكردية السورية وفي الجرود الشرقية اللبنانية مع حلحلة الازمة السياسية العراقية بداية حصار فعليّ لهذه الظاهرة التي اعتمدت في هجماتها سياسة استراتيجية «الصدمة والرعب» التي كانت أساس الاستراتيجية الأميركية في حربها لاحتلال العراق عام 2003، ما يشير الى اننا قد دخلنا مرحلة جديدة لم يعد الاستسلام أمام «داعش» سِمتها البارزة.

وفي ضوء هذه التطورات يعتقد محللون استراتيجيون انه كلما ترافق الصمود الميداني مع الوفاق السياسي وتجفيف الموارد، تنتقل المنطقة من حال الازمة التي أوجَدتها «داعش» الى حال الازمة التي بدأ يعيشها هذا التنظيم واخواته.

فهل يدرك السياسيون المعنيون في هذه الدول انّ دعم الصمود الميداني من جهة وتحقيق التوافق السياسي وتجفيف الموارد من جهة أخرى هي الطُرق الأسرع لمواجهة هذه المجموعات الارهابية؟