المرحلة حسّاسة، الوضع استثنائي، الأمن يتدهور، أيامٌ سوداء وظالمة تنتظرنا، الإرهاب يتغلغل فينا، الفتنة دقّت الباب وهي لن توفر أخضرًا ولا يابسا، البلد مستهدَف في الصميم..

ما سبق ليس سوى عيّنة من عبارات التهويل والتخويف التي يحرص الكثير من السياسيين في لبنان على تردادها ليلاً نهارًا منذ فترة، على طريقة المنجّمين والمتنبئين، علمًا أنّ المرحلة "الحساسة"، على سبيل المثال، تحيط بنا منذ أيام أجدادنا وربما أجداد أجدادنا ولا تزال على حالها..

ولكن هل الوضع مأساوي فعلاً إلى هذه الدرجة؟ هل بات لبنان على شفير الهاوية والانهيار كما يصوّره البعض؟ ولماذا لا يبحث "المهوّلون" عن حلولٍ عملية بدل "التنظير"؟

تمديدٌ ثانٍ على الأبواب..

يربط البعض التهويل الممارَس من قبل السياسيين بـ"النوايا المبيتة" التي لديهم بتمرير ​التمديد​ الثاني للمجلس النيابي، والذي أصبح أمرًا واقعًا شاء من شاء وأبى من أبى، ولا يحول بينه وبين التنفيذ سوى "السيناريو" الأكثر ملاءمة والأقلّ ضررًا.

ولأنّ المجلس النيابي عجز عن تحقيق "وعوده" بـ"الإنتاجية"، بل كانت "تمثيلياته" مملّة لحدّ "الاستعراض" خصوصًا في ملف سلسلة الرتب والرواتب التي حملت من المماطلة والتسويف ما حملت، بدت "الذريعة الأمنية" حاضرة وجاهزة.

هذا "السيناريو" كان وزير الداخلية نهاد المشنوق أول "المبادرين" لوضعه موضع التنفيذ، حين أعلن أنّ الوضع الأمني لا يسمح بإجراء هذه الانتخابات. سريعًا، تبنّى الكثيرون "منطق" الوزير وتلقفوه، ومن لم يفعل ذلك في العلن خشية "الإحراج" الذي قد يسبّبه له في بيئته، فعله في السرّ وخلف الكواليس.

ازدواجية "ديمقراطية"..

هكذا إذًا، بات لبنان، البلد الذي يتغنّى مسؤولوه زوراً بأنه الأكثر ديمقراطية وغنىً في المنطقة، بلدًا لا يعود قانون انتخابه إلى العام 1960 فحسب، بل البلد الذي يسمح نوابه فيه لأنفسهم بتجديد الوكالة الممنوحة لهم من قبل الشعب دون العودة إليه ولو عبر استفتاءٍ، علمًا أنّ الأنظمة الديمقراطية في كلّ العالم لا تقوم سوى على الانتخابات.

أما "الذريعة"، التي تبرّر بحسب الطبقة الحاكمة هذا المنحى، فليست سوى الوضع الأمني. وهنا مفارقة أكثر من فاقعة. فهؤلاء الذين يجدون في الوضع الأمني ما يبرّر إلغاء الانتخابات من أساسها، هم أنفسهم الذين تغنّوا بانتخاباتٍ جرت في بقعٍ دموية بل في ساحات حروبٍ بكلّ ما للكلمة من معنى. هكذا، يقول بعض هؤلاء أنّ سوريا، على سبيل المثال لا الحصر، تحدّت كلّ "المتآمرين" عليها لتجري "عرسها الديمقراطي" غير المسبوق، ومثلها فعل العراق ومصر وتونس، واللائحة تطول ولا تنتهي، ليكون لبنان "الاستثناء" الوحيد عليها.

هي ازدواجية ديمقراطية، يقول البعض. ربما. ولكنها أكثر من ذلك. هي مؤشر إضافي لنظامٍ لا يمتّ للديمقراطية بصلة، لنظامٍ يسمح للنائب بتشريع ما يشاء، حتى لو كان ما يشاء ضدّ إرادة الشعب بل ضدّ استطلاع رأيه والركون إليه، لنظامٍ يدرك أنّ الانتخابات ستعيد نفس الطاقم الحريص على التمسّك بقانونٍ انتخابي أكل عليه الدهر وشرب حتى لا يخسر مقعده لا سمح الله، ومع ذلك يفضّل عدم "المغامرة".

وقائعٌ تكذّب الذرائع..

وبعيدًا عن التمديد، قد يكون من المفيد فحص "ذريعته الأمنية" على أرض الواقع، وما إذا كانت تحتمل ولو درجة بسيطة من الصدق والموضوعية. وهنا، تستوقف المراقب مجموعة من الوقائع المناقضة لهذا التوجه:

أولاً– يقول السياسيون أنفسهم الذين يهوّلون من سوء الأوضاع الأمنية أنّ لبنان يحظى هذه الأيام بمظلة دولية تدعم الاستقرار فيه وتحول دون أيّ انفجارٍ كبير يوتّر الأوضاع فيه.

ثانيًا– الوضع في لبنان لا يزال بألف خير مقارنة بالمحيط، فصحيحٌ أنّ التوترات موجودة، وأنّ هناك خضّات أمنية بين الوقت والآخر، إلا أنّها لا تزال محدودة، ولا تُقارَن بما يحصل في دولٍ أخرى على غرار سوريا والعراق.

ثالثًا– الوضع الأمني تحسّن عن العام الماضي، بدليل تراجع التفجيرات الإرهابية خصوصًا في بيروت وضاحيتها الجنوبية، فضلاً عن الانجازات التي حققتها الأجهزة الأمنية على غير صعيد، ولا سيما في ما يُعرَف بالأمن الاستباقي، وإن كان الخطر لا يزال موجودًا.

رابعًا– لا شكّ بأنّ لبنان هدفٌ استراتيجي بالنسبة للجماعات الإرهابية التي تسعى للدخول إليه بأيّ طريقةٍ وافتعال المشاكل والمعارك في داخله، ولكنّ الأجهزة الأمنية، وفي مقدّمها الجيش اللبناني، لا تزال تمسك بزمام المبادرة على الحدود، وتمنع هذه المجموعات من التقدّم.

خامسًا– يمكن القول أنّ التمدّد الإرهابي محصورٌ في مناطق معيّنة تشكّل ما يُوصّفه البعض بأنه "بيئات حاضنة"، وبالتالي فإنّ نقاط التوتر الساخنة تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، ويتمّ العمل على احتوائها، وبالتالي لا يمكن تعميمها على كامل الأراضي اللبنانية.

انتخابات تحدّت كلّ التوترات..

أبعد من كلّ ما سبق، لم تحصل انتخاباتٌ يومًا في لبنان إلا وكانت التوترات موجودة بشكلٍ أو بآخر منذ أيام الحرب اللبنانية، بل إنّ التاريخ المعاصر يحمل أمثلة واضحة، على غرار انتخابات العام 2005، التي جرت بعيد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري والأجواء المشحونة جدًا التي أفرزها، وانتخابات العام 2009 التي جرت رغم التوترات الأمنية والاغتيالات السياسية، وقد ترجمت هذه التوترات في بعض المناطق، ولا سيما في مدينة صيدا يومها، على خلفية المعركة الطاحنة بين نائبي تيار "المستقبل" فؤاد السنيورة وبهية الحريري من جهة ورئيس التنظيم الشعبي الناصري النائب السابق أسامة سعد.

اليوم، ليس الوضع الأمني أسوأ من تلك الأيام، وهذا الوضع لم يمنع من إجراء استحقاقاتٍ كثيرة، على غرار الامتحانات الرسمية والمسابقات الرياضية وحتى الاستحقاقات الجمالية والمهرجانات الفنية. ثمّ إذا كان صحيحًا أنّ الأجهزة الأمنية غير قادرة، في ظلّ الضغوطات الهائلة عليها، أن تشرف على انتخاباتٍ في كلّ لبنان، لماذا لا تُعتمَد الطريقة القديمة بإجرائها على مراحل، وعلى أكثر من يومٍ واحد؟

باختصار، سوداوية البعض هي سوداوية مقنّعة، والتهويل منظّم وأكثر، لغايةٍ في نفس يعقوب!