في خضم تبدلات منطقة تجنح بخطوات سريعة نحو التطرف، وفي عصر باتت مكافحة الإرهاب والأفكار المتشددة هي الشغل الشاغل للحكومات الغربية والعربية معاً، يبدو من الضروري أن نتعمق بموضوع أساسي. ففي حين بعض الدول تنادي علناً بمكافحتها للإرهاب ورفضها للتطرف وتدعو إلى احترام الآخر واحترام معتقداته وخصوصياته، نرى الممارسات الفعلية بعيدة كل البعد عن ذلك. فإذا نظرنا إلى النهج التي تعتمده تركيا مثلا ًفي نظامها التعليمي، نرى أنها تؤسس لنظرة أحادية في الدين، فالنازحون المسيحيون من سورية والذين لا قدرة لهم إلا في التسجيل في المدارس الرسمية هم مجبرون على دراسة القرآن.

وكان رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو قد ندد بقرار صدر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ينتقد التعليم الديني الإجباري في المدارس التركية، معتبراً أن غياب هذا التعليم قد يدفع البلاد نحو التطرف على غرار ما هو حاصل في العراق وسورية.

وقد كتبت الباحثة التركية تولين دالوغلو مقالاً أشارت فيه إلى أن هناك توجهاً داخل تركيا يقضي بتحفيز الطلاب إلى التعلم في المدارس الدينية، فعند انتهاء المرحلة المتوسطة يجرى للطالب التركي امتحان جدارة ليدخل إلى مرحلة الثانوية، فمثلاً العام الماضي تقدم مليون و112 ألف طالب بامتحان

تحديد المستوى والذي يسمح لهم بالدخول إلى الثانوية الأكاديمية، ولكن وزارة التربية والتعليم سمحت لـ 363872 طالباً فقط للقيام بذلك. أما الباقي فيتحول إلى المدارس الدينية، هذا النظام الجديد يجبر أكثر من نصف الطلاب على مواصلة تعليمهم في المدارس الثانوية المهنية أو الدينية… مثل هذا الفرض القسري على الطلاب لا يمكن قبوله. والأسوأ أن الوظائف الرسمية في الدولة تحبذ طلاب الجامعات والثانويات الدينية وهو عامل إضافي لترغيب الطلاب الالتحاق بالمؤسسات التعليمية الدينية.

لقد أجمعت التحقيقات المحلية والأجنبية على أن مناهج التعليم الديني الرسمي مسؤولة عن إنتاج التطرف، وتالياً الإرهاب، الأمر الذي يستوجب مراجعة شاملة ونقدية للمناهج من أجل تصحيحها وزرع قيم التسامح الديني، واحترام معتقد الآخر، وإرساء أسس التعايش بين المعتقدات.

وحتى الدول الأوروبية باتت حريصة على الأفكار التي تتكون في المدارس وتؤسس لمجتمع المستقبل، وباتت تدرك هذه الدول أن هناك علاقة أساسية بين النظام التعليمي وما يسمى بالتطرف، وتعطي الدول الأوروبية أهمية قصوى للأفكار التي تنشأ في المدارس وتؤدي إلى تعزيز نظريات التطرف، وليس فقط المقصود الدين الإسلامي، فمثلاً قالت وزيرة التعليم البريطانية نيكي مورغان إن الحكومة البريطانية لن تموّل المدارس الّتي تعلّم حكاية الخلق في سفر التكوين ضمن مناهجها، في محاولة للحد من التطرف الديني في المدارس والنظام التعليمي البريطاني. ودانت مورغان، خلال خطاب في الوعظ الديني في المدارس البريطانية الرسمية. وبحسب مورغان، لم تكن هناك أيّ أصولية مباشرة أو عنيفة، لكن التقارير الّتي حصلت عليها تشير إلى أن أشخاصاً في مراكز مؤثرة بهذه المدارس، وبمفاهيم بعيدة عن الإيمان، يحاولون الترويج للتطرف الديني المسيحي في المدارس.

أما في لبنان، ففي نظرة سريعة إلى نظامنا التعليمي، ندرك جيداً أننا لا نؤسس لمجتمع موحد مترابط مبني على القيم الوطنية، فإذا نظرنا إلى البرامج التعليمية لوجدنا أنها تعزّز مفهوم الطائفية من خلال إهمال أفكار المواطنة، والمدارس فهي مقسّمة بحسب الانتماءات الدينية (المسيحية، الإسلامية) والتي تنقل لطلابها أفكارها الدينية والعصبية الطائفية. والأسوأ أن المدارس في لبنان لا تسعى إلى تعريف الطالب على شريكه في الوطن ممن يختلف في الدين أو الأفكار، مما ينشأ الطالب وهو في جهل مطلق عن الآخر، بل يخلق لديه الخوف من الآخر بسبب الاختلاف في العادات والتقاليد والدين والمعتقد.

نركز في مناهجنا التعليمية على المعلومات العلمية، ولكننا لا نربي الأطفال على الانفتاح والتسامح وتقبل الأفكار المختلفة ونبذ الطائفية والعنصرية، لا نربي أطفالنا على اعتماد العقل والتحليل لمعالجة شؤون الحياة، بل نقيدهم بأفكار مسبقة تحدد ما هو الحق والشر، وفي سعينا لحماية الطائفة وتعزيزها، نخلق شباناً وشابات بعيدين عن التحليل يتقبلون الأمور.

الحكومة التركية في سعيها لترسيخ التعليم الديني، تعرف جيداً أنها بذلك تخلق جماهير وفية، تابعة، غير قادرة على الإبداع والتميز.

يقول توماس فريدمان في مقاله Invasive species إن الوسيلة الأفضل لمواجهة داعش والتي شبهها بالنباتات الضارة التي تجتاح بيئة ما، هي بتحصين هذه البيئة لا باعتماد العنف حصراً، فمحاولة اقتلاع النباتات الضارة بالقوة لن يؤدي إلا إلى عودة ظهورها مجدداً وبكثافة، فالأفضل هو اعتماد وسيلة زرع بذور مضادة، وهنا يقول إنه لو قدمت لهذه المجتمعات مدارس أفضل، محاربة فاعلة للفساد، وفرص حقيقية لما تحولت هذه البيئة إلى حاضنة خصبة للنباتات الضارة.

وإذا نظرنا أبعد من ذلك، فعلى رغم أن الإنفاق السعودي على التعليم يحتل مرتبة عالية عالمياً، حيث بلغ في السنوات العشر الأخيرة 1.21 ترليون ريال ( 322.6 مليار دولار)، فإن المملكة لا تزال في مستوى منخفض من حيث معايير وجودة التعليم وفقاً لتصنيف مؤسسة بيرسون.

وهذا ينطبق على معظم الدول العربية حيث يتدنى مستوى التعليم، ومن المؤشرات المباشرة لذلك هو قلة براءات الاختراع. يُضاف إلى ذلك توجه إلى فرض التعليم الديني.

المطلوب اليوم هو التنبه الجدي إلى ما تؤسسه مناهجنا التعليمية في هذه المنطقة، ففي لبنان نحتاج إلى ورشة عمل كاملة حيث يجب أن يتم تشجيع المدارس العلمانية من جهة، وإعادة الدور الحقيقي للمدرسة الرسمية من جهة أخرى، حيث بدل أن تلعب المدرسة الرسمية دوراً في توحيد المجتمعات، تم ابتلاعها وبدل إحداث التغيير، ذابت في البيئة التي تحتويها.

لن نحقق أي تغيير مستقبلي إذا استمر طلابنا في قوقعاتهم، لن تحقق المنطقة أي انتصار يذكر على الأفكار المتطرفة، إذا كانت مدارسها في الأساس لا تؤسس لاحترام الآخر والتسامح وتعزيز ثقافة الحوار.