علاقة محيّرة هي تلك التي تربط حزب الله بالحزب الشيوعي اللبناني. لا أحد يعلم القصة الكاملة لكن معاً يبحثان عن الإنسان والحرية والأرض والكرامة والوطن والله. في قلب الدخان الأسود استدار زياد نحو من يعنيهم الأمر وقال ما يُقال تنفيساً في كآبة المساء.

كلام ​زياد الرحباني​ الأخير بمثابة شهقة وجع في ظرف من أقسى الظروف التاريخية التي مرّت على لبنان والمنطقة طغياناً واستعصاء ومعاداة للمنطق والحق، لكنّه يحمل دلائل واضحة على حبّ وحرص ومسؤولية لا تتعمّد الإغاظة بقدر ما تنطوي على نقد مؤلم لسياسات حزب الله الداخلية. لم تُثر عبائره غيظ الحزب وسخطه، لكن قرعها هذه المرة كان أشدّ. مسّت الذات من الداخل وحرّكت سكّة الجدل، فيما بدأت بعض القيادات تعرق وتفكّر في تقاطعات وأصداء وتردّدات هذا الصوت الذي هاج مجروحاً. ذلك أنّ زياد لم يقل أشياءه في ميعة حفلة فيها خمرة وثرثرة، بل أراد أن يشدّ وثاق الحزب وعضده بأخيه في النضال والمقاومة الحزب الشيوعي ، وهو يطرف بحِيرة: لما لا يكونان معاً على التراب نفسه، يصدّان خطر الخوارج والصهيونية؟

الأخطاء المادية والمعنوية، التي بلغت قدراً كافياً لتجعل زياد يحنق ويتذمّر، من معالم المشكلة التاريخية الغامضة، والأزمة المهذّبة التي تأرجحت إلى الأمام والخلف في سكون، سحابة عقدين ونيّف من الزمن، إلى أن صاح زياد… صاح زياد… صاح زياد، فعلى الكلّ أن يسمع وتريات من النوع الذي يقوله مظفر النواب وهو على مسرح التفجّع والأمل. كان يبدو زياد أنّه يغني ولكنه كان يصرخ. كان يبدو أنّه يرقص ولكنه كالطير يرقص مذبوحاً من الألم!

بين حزب الله واليسار اللبناني ديالكتيك بيروقراطي خجول يعتمد على تقدير المواقف والمخاطر والخواطر، أكثر من بحثه عن المصالح المشتركة أو توكيده على أوضاع القوة لديهما. ديالكتيك يقترب من لغة الغايات ويبتعد عن لغة الوسائل والممارسات. يتضمّن أفكاراً ذكيّة غير أنّه لا ينطق بها. يسترخي على آرائك من التشكيلات الكلامية ومجموعة من الرواسم الكليشهات ، وينأى بنفسه عن حقائق الأرض وتفاعلات السياسة. يختزن توقاً ثورياً جارفاً لكنه يتكدّس على صورة اهراءات مهملة. يُبقي مستوى العلاقة بين الطرفين أشبه بسباحة على الرمل، أيّ أنّ يظلّ كلّ واحد في مكانه لا يبارحه! هكذا، بقيت المحاورات على ضيقها وترسبّاتها الأيديولوجية والتاريخية، ولم تفلح بالخروج إلى مدارها الصحيح حيث المشترك الإنساني، أيّ المقاومة ضدّ الاحتلال في أعمق أبعادها، والنضال الاجتماعي ضدّ الاستغلال والاستبداد والطائفية في أجلى تفاعلاته الوطنية التي تتيح إعادة بناء المجتمع بصورة جديدة تلتزم معايير المساواة والعدالة.

لا تفسير معقولاً لبرودة العلاقة غير ما يمليه المقتضى الأيديولوجي الذي يحجب حركة التاريخ ويشّوه الواقع. قصور لا ينسجم والتجارب النضالية لكلا الفريقين، وعجز يحول دون خلق شبكة جديدة من الخطوط الساخنة لمواكبة التطورات والتحديات القائمة. من وجهة نظر معينة تبدو الأيديولوجيا أقوى من تأسيسات الدم النقي الذي أريق في مواجهات بطولية مع العدو «الإسرائيلي»، ومن ثوريّة نبيلة شفافة ضجّت بها ساحات المدن اللبنانية الرئيسية، وهي تتطلع إلى تكوين مجتمع إنساني مدني يضع حدّاً لكلّ الاجترارات الطائفية والقبلية التي يقوم بها نظام عقيم مهمته الأولى تعليم الخضوع والتمذهب. ومن وجهة نظر أخرى تبدو الإشكالية في خريطة حزب الله الثقافية – السياسية التي لا تستوعب كيانات تمارس وظيفة الاجتهاد على ضوء العقل فقط من دون الحاجة للاستعانة بالدين. وعند الطرف المقابل تبدو الملاحظات متصلة بأنماط السلوك الحزبي، لجهة البطء في الخروج من المدار السياسي المقفل، والعجز في بناء جسر متين بين القديم والحديث بمقدوره أن يربط بين تجربتين ومشروعين يعملان في المقاومة والإصلاح على الساحة الوطنية وعلى الساحة القومية. لكلّ جهة مآخذها على غيرها، كما ولها اختناقاتها الداخلية الأثيرة، وداؤها الجميل الذي لا تريد الشفاء منه. وهو ذا من يحدّد أسس خطابها الاجتماعي والتاريخي بالرغم من تصادمه مع المزاج الجمعي لدى مناصري ومحازبي كلّ جهة التي ترى أنّ فرصاً كبيرة تُهدر، وأهدافاً مشتركة تضلّ السبيل، وأحلاماً باطنة مكبوتة لا تعرف كيف تطفو على سطح الحياة.

التحديّات المطلبية كانت دائماً قادرة على استفزاز المخزون الشعوري والإنساني لدى جمهور الرايات الصفراء والحمراء على حدّ سواء، لكن لم يحسن التصرّف مع بأسها ودافقيّتها في مشروع إصلاحي على مستوى الوطن كله. وتحديات الوجود الصهيوني وحركته الإرهابية الاحتلالية كانت دائماً قادرة على شحن حياة الآلاف من المقاومين الإخوة والرفاق بالحماسة والحميّة الوطنية لكنها لم تسر في طريق مرسوم منظم يُقدّم صورة جديدة عن النضال المشترك الذي يتجاوز الإطار الحزبي إلى ما هو أبعد وأعمق. وتحديات التكفير كانت دائماً قادرة على تظهير الوجه الآخر لهذه الظاهرة الشيطانية، من خلال الآفاق المضيئة للإيمان النقي والعلمانية الإنسانية بحيث يمكن أن يُشكل تحالفهما ضربة قوية للتعصّب المذهبي والتيبّس الفكري ولشريعة الذبح باسم الله.

هكذا يبدو أنّ المسألة في حراجتها تقف عند حاجز العجز عن الانعتاق من الروابط والعقد التاريخية والنفسية والفكرية، وطبعاً كلّ بحسبها تضاؤلاً واتساعاً. وهكذا تظهر العلاقة مشروطة بمعيارية لحظوية محدودة ومتعثرة لا تتمثل بأفعال وحقائق سياسية وثقافية، وكأنها تائهة لا تعرف طريق الانخراط في أفق المستقبل وأشيائه واحتمالاته وتساؤلاته وتحوّلاته بالاستفادة من طاقات وإمكانات للأسف، لا تُفعّل، وتطلعات وتدابير لا تُحرّر.

هناك حاجة إذاً، لتحريض الطرفين لاستنهاض حيويتهما في صيغة حلم مشترك يتلمّس تغيير الواقع الوطني وإلباسه ثوباً جديداً. فنتاج حزب الله والحزب الشيوعي العمود الفقري لليسار، يشترك بعدد من السمات المحورية التي يمكنها أن تحدّد شكل الواقع اللبناني بمستوياته السياسية والاجتماعية على أقلّ تقدير. يمكنها تشكيل منظومة قيم بديلة عن النهب والتزوير والابتزاز والتهميش. يمكنها تنقية الهواء من غبار الطائفية الأصفر ودخان المذهبية الأسود. يمكنها أن تخرج بالجماهير إلى ميادين الحرية كي تستعيد وجودها وحضورها التام. يمكنها أن تجعل الوطن مكاناً فسيحاً للبوح النضالي الأصيل تتلاقي فيه قوى وتيارات قديمة وحديثة المنشأ تنشد الحرية بيمينها، وترفع السلاح بيسارها اقتراباً من حلم طال انتظاره وهو تحرير فلسطين من سرّاقها ومغتصبيها. يمكنها تشكيل قوة اجتماعية وأخرى عسكرية وثالثة ثقافية تبدأ من الرغيف والبندقية والقلم لحماية لبنان من التقسيم أو الذوبان في لعبة الصياغات الإقليمية الدولية التي تجري على صوت كؤوس النبيذ أو أقداح القهوة المرة!

الشيوعيون يتساءلون: لا يكفي أن يحتفظ الحزب بالمعجبين. ينبغي أن يجرّ القارب مسافة كافية لنصعد عليه معاً. وبدل أن يقلّب وجه الكلام بشِعر جميل، علينا أن نقلّب سويّة وجه الواقع وننظفه من أوساخ الطائفية ونفايات الفساد، وبدل أن يمضي وحيداً إلى المعركة يمكننا أن نتشارك الدم والعرق والأناشيد والأغاني الثورية في الطريق إلى الحرية وإلى فلسطين. الشيوعيون يرون أنّ تجربة حزب الله تظلّ مغلقة مهما حاول أن يفتح كوى ونوافذ على حركات إسلامية جهادية خارج بيئته العقائدية أثبتت التحديات مع التحوّلات في العالم العربي والأزمة في سورية أنها حركات انتهازية أو شكلية لا وزن لها لا تتشارك مع الحزب سوى لتحصيل الأرباح والمكاسب، بينما كان الأوْلى لمجابهة المدّ التكفيري المذهبي التحالف مع قوى علمانية ووطنية وقومية مبدئية في معاداتها للمشاريع الأميركية والصهيونية ولكلّ جماعة طائفية تريد أن تفرض نموذجها في العيش والدين بحدّ السيف. وكان الأجدى التحالف مع قوى لا تتجنّب وعور الشعاب، بل تنصهر في براكين الرفض والمقاومة بغير انتظار لأيّ جوائز وعوائد مادية. قوى لا تستسلم للتحوّلات إذا عاكستها باسم الواقعية. قوى تعتبر أنّ التنوّع والتغاير قوة ثقاقية وسياسية تحرك وتجدّد وتكشف وتحرّر وتتخطى التماثل العازل الذي يسبّب الجمود ونشوء الذهنيات الفاشية. لسان حال أهل اليسار اليوم، أنّ حزب الله الديني نجح في التحالف مع دولة علمانية سورية لأسباب ودوافع قومية استراتيجية، وهذا جيد، ولكنّه فشل في بناء تحالف وطني مع حزب علماني الشيوعي لأسباب ودوافع سياسية وطائفية، وهذا سيّئ! ولذا تبدو المفارقة قاسية وغريبة في أوضاع تتشابك فيها مصائر أمم وشعوب ودول وجماعات. ومن المحزن أن يكون حظ الحزب من الإلهام في بعض المواقع أقلّ من حظه من التنظيم، وما يقتبسه على مستوى التجارب العسكرية أسرع مما يبتكره على مستوى الفكر. لذلك نحن خارج القارب، هكذا يقول الشيوعيون!

أما الحزب اللهيون فيجدون في الحزب الشيوعي تفكّكاً لا على مستوى العقيدة فحسب بل على مستوى البنية التنظيمية والشخصية المعنوية. ولسان حالهم يقول: مجرّد الرغبة لا تكفي لوحدها لإعفاء الذات من المسؤولية التي لها متطلبات يجب السير في اتجاهها. وتبرئة الذات وتجريم الآخر لا يدخلان في سياسة فتح الطرق التي يجيدها الإخوة الرفاق الذين حوّلوا الحزب الشيوعي إلى مجرّد ظاهرة تاريخية والشيوعيون إلى المعذبون في الأرض غارقين على الدوام في موجات من السأم. الكتلة التغييرية هي من تواصل السير في الزمن ولا تتوقف عند الربع الأخير من القرن الماضي، والخروج من تحت رماد الانكسار يحتاج لا إلى فاعلية النظر لدى بعض القيادات المتنوّرة فقط، بل إلى فاعلية العمل أيضاً لدى كلّ المستويات الحزبية. كما أنّه ليس من الطبيعي أن تستنقع قيادة الحزب نفسها في بؤر ما كان ، بل عليها أن تخرج إلى فضاءات ما يجب أن يكون ، إذ ما جدوى الإصرار على لعبة الصبر وانتظار ما تجيء به الظروف خلف مغزل الفتن والغزوات!

أمام الملأ يظهر أهل الحزب موجودين وغير موجودين، وأغلب المؤشرات تدلّ على أنهم منفصمون عن الواقع ولا ينخرطون في التاريخ. يستمرّون بالتمسك بأدبيات تتناقص فعاليتها وجاذبيتها أمام غول الفوضى التي تشكل تاريخاً قاهراً للجميع. مؤمنون كـــ حزب اللهيين أنّ هناك ضرورة لنقف على المسرح معاً، وأن نتشارك طريقاً مضيئاً من منطلق إنساني ثوري وطني لا أثر فيه للحساسيات من هنا وهناك، ولكن علينا أن نكتشفه معاً، لا بالرجاء وحده بل بالمبادرات الجديّة. ندرك أنّ عصرنا يغور بالفعل الجماعي والتفكير الجماعي لكن نحتاج منكم تدارك الموقف ولهب الصراع والزمن الذي تحوّل إلى عواصف، وصار لزاماً أن تروا الواقع بعيون جديدة، بعيون مفتوحة، بحيث يكون اللقاء أكثر من فرصة بل مسؤولية مشتركة لاستيعاب حجم التفاعلات الجارية على تخوم عالم يتشكل على نحو السرعة.

في النتيجة، السؤال يبقى هو السؤال، أين تكمن صعوبة العلاقة بين حزب الله والأحزاب الوطنية العلمانية؟ السؤال الذي باتن ملحّة الإجابة عليه بفعل سيولة التحديات وضخامتها. السؤال الذي ترتهن به قضايا سلمٍ وحرب. سؤال يظهر كإشكالية بارزة على طريق تفكير يقوم على أساس الاعتراف بالمخاطر المتبادلة والمصالح المشتركة.

الحبّ لم يسقط بعد، والمقاومة مشروع نضال مبارك لن ينكسر أبداً، فلِمَ يبقَ المقاومون، رفاقاً وإخوة، غرباء؟