الهبة ال​إيران​ية معلّقة... ضبابيّة. أشبه بالكرة الحارقة المترامية بذرائع مختلفة أكثرها واقعيةً: الجانب القانوني. جانب لم يكن في بال الحكومة بقدر الامتناعات السياسية لو لم “تحركش” بعض دول الغرب غامزةً من قناة “العقوبات” ومسهّلةً على رافضي الهبة التمسّك بأحجياتٍ تهدّد سمعة لبنان وتضرب على وتر التزاماته الدولية لا اصطفافاته السياسية المخجلة.

هكذا غدت العقوبات الدولية على إيران ذريعة “درجة ثانية” لتسويف البتّ في إمكانية قبول الهبة أو عدمه بعد رمي الكرة في ملعب الجيش في “الدرجة الأولى”. رميٌ أثمرته زيارة نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع سمير مقبل الى طهران وجولات جسّ النبض الداخلية. لم يتأخر الجواب كثيراً ولعلّ عدم ملامسة الموضوع في جلسة أمس الأول خير ردّ. ببساطةٍ، لم يُرِد الرئيس تمام سلام وضع رقبة حكومته تحت سيف الاختلافات مجدداً وهو الذي كدّ للخروج بصيغة “التوقيع الإجماعي”، فما كان أمامه إلا اتخاذ قرار إرجاء البتّ في الموضوع الى ما شاء الله على ما تؤكد أوساطه لـ “صدى البلد” خصوصًا أن ظروف البلاد لا تسمح بطرح مزيدٍ من المواضيع الإشعاليّة ولو كان موضوع تسليح الجيش أولويّة لا يمكن تجاوزها”. وتشير الأوساط الى أن “المسألة سياسيّة أكثر منها قانونية وتنطوي على انقسامٍ حكومي واضح من شأنه أن يربك الرئيس سلام كونه رجلاً توافقياً. وطالما هناك أخذٌ وردٌّ بين فريقين في الحكومة والبلد، لا يبقى أمامه إلا إرجاء الخلاف. علمًا أن تسليح الجيش ليس متوقفاً على الهبة الإيرانية بل هناك هبة سعودية ما زال العمل على تحصيلها مستمراً”. ولكن أين هي هذه الهبات الموعودة؟ تجيب الاوساط: “السؤال الذي نسمح لأنفسنا بأن نطرحه في هذه الحالة هو: هل يريدون تسليح الجيش أم لا؟”.

أكثر تعقيداً وتشدّداً...

قد يتراءى للكثيرين أن الحكاية أبعد من جانبٍ قانونيٍّ يمكن أن “يُفتى” باجتهاداتٍ كتلك التي “نبشتها” الولايات المتحدة لتسويغ تعاملها الصريح مع طهران، إلا أن الواقع القانوني يبدو أكثر تعقيداً وتشدّداً بالنسبة الى بلدٍ كلبنان تُفتَح العينُ على مخالفته مثل هذا القانون أكثر من أي بلدٍ آخر لسببيْن جوهريَّين: أولهما معادلة: يحقّ للكبار ما لا يحقّ للصغار، وثانيهما احتضانه لـ “حليف إيران” المُدرَج على لوائح الغرب الإرهابية. ومن هذا المنطلق، يؤمن القانونيون بأن القرار السياسي لا يمكن إلا أن يتخذ بالمقتضى القانوني الذي من شأنه أن يمنحَ تسويغةً واضحةً وصريحة وحازمةً لأيّ قرار سيُتخذ. قرار يحكمه مجددًا انقسامٌ سياسيٌّ عمودي بين فريق يريد الهبة بأي ثمن على اعتبار أن عدم قبولها في هذا الوضع خيانة عظمى للجيش الوطني الذي يحتاج الى سلاحٍ أكثر من أي وقتٍ مضى، وفريق يرفضها لمجرّد أنها آتية من إيران ويتمسّك بالموانع القانونية وينتظر بحرَجٍ انقشاع مصير المليارات الأربعة التي لم يشتمّ لبنان منها شيئًا بعد وتحديداً من الجانب الفرنسي الذي كان من أوائل مستبقي ردّ الفعل اللبناني والمحذّرين من إمكانية قبولها.

قرارٌ بالغ الأهمية

يؤكد المرجع الدستوري والقانوني بول مرقص لـ “صدى البلد” أن “أكثر من قرار لمجلس الأمن -منه ما هو مدرَج تحت الفصل السابع الملزِم ومنه ما هو غير مدرَج ولكنه في مؤدّاه ملزِم- يحظّر التعامل مع إيران بأوجه مختلفة ومنها عن طريق استيراد أو استقدام أو قبول هبات عسكريّة، ولعلّ أحدث هذه القرارات هو الرقم 1929 الصادر عن مجلس الأمن ولكن ما قبله أيضًا القرار 1835 وهو قرار بالغ الأهمية لأنه يعيد التأكيد على قرارات مجلس الأمن 1696 للعام 2006 و1737 للعام 2006 و1747 للعام 2007 و1803 للعام 2008، ومؤدّى هذه القرارات التحظير على كل الدول ومنها لبنان استقدام أسلحة ولو على شكل هبات من إيران، وهذا ما يجعل لبنان في منعٍ دولي من هذا الاستيراد إذ عليه موجب سلبي وهو موجِب الامتناع. وأقول ذلك بأسف لأننا لولا هذا الموجب لكنا استفدنا من هذه الهبة-الحاجة”.

جدل عقيم

وشدد مرقص على أنه “لو كانت الهبة مجازة ورفضتها الحكومة لبدا ذلك أشبه بالخيانة، أمّا وأن النصوص الدولية صريحة – ومنها ما هو مُدرج تحت الفصل السابع أي أنه مرفق بعقوبات على إيران ومن يتعامل معها على هذا النحو- فقد أصبح الأمر محظوراً على لبنان. وبالتالي لا أرى في هذا الاجتهاد السياسي بين قائل بضرورة قبولها وقائل بعدم قبولها إلا جدلاً عقيمًا جديداً من الجدالات اللبنانية. وأبعد من ذلك، لسنا نفهم زيارة نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع الى إيران لهذا الغرض، خصوصًا أن المواد التي تحظّر التعامل هي مواد صريحة ولا تقبل التأويل والاجتهاد في معرضها لأنها جاءت على إطلاقها تحظيراً مطلقاً لأي وجهٍ من الوجوه”.

وصلت الرسالة...

أياً تكن نوعية الأسلحة التي ستتضمنها الهبة والتي باتت شبه معلومة، وصلت الرسالة من الجميع الى قائد الجيش. وصلته “الأصابع المحذّرة” من إخلال لبنان بقرارٍ دوليٍّ بهذه الحساسية ولو كان ذاك الوطن الصغير سيقف شاهدَ زورٍ على قرارٍ يخرقه الكثيرون ويُحظّر خرقه على القليلين. في النتيجة، حتى الأمم المتحدة رفعت صوتها التحذيري خوفاً على قرارٍ خرج من أحشائها من أمٍّ أميركية وأبٍ أوروبي. صوت دفع بحاملي راية الهبة الى رميها في الملعب الأكثر سهولةً للتخلص منها: ملعب الجيش العاجز عن اتخاذ قرارٍ مماثل كي لا يُقال أنه “جيش إيران الثوري” والاكتفاء بالوقوف مشتهياً أسلحةً يتوق اليها عناصره ولكن القرار السياسي أقوى من تضحياتهم وشهادتهم... كالعادة.