لا يمكن فصل الاعتداءات المسلحة التي شنها الإرهابيون على الجيش في لبنان عما يجري من حروب مفتوحة على جيوش مصر وسوريا وليبيا والعراق. تعدّدت أسماء المجموعات بين "داعش" و"النصرة" و"القاعدة" ومتفرعاتهم، لكن مبدأ عمل تلك المجموعات واحد يقوم على أساس ضرب الجيوش لخلق بيئة مؤاتية لإستيلاد الدويلات "الإسلامية". هذا ما يجري في سيناء و بنغازي وديرالزور والأنبار وما بينهم.

نال لبنان دعماً ملحوظاً من عواصم القرار لضرب تلك المجموعات. جاء تصريح السفير الأميركي ديفيد هيل عن الثقة ب​الجيش اللبناني​ في حربه ضد المسلحين لتأكيد دعم الولايات المتحدة للخطوة العسكرية اللبنانية. سبق التصريح الأميركي الواضح رفع الغطاء الداخلي الكامل عن الإرهابيين المتواجدين في ​طرابلس​. فما هي الدلالات؟

كانت تراهن المجموعات على مواكبة "إسلامية" حاضنة لخطواتها التصعيدية شعبيا وسياسياً او على الأقل روحياً. حددت ساعة الصفر. لكن المواقف توالت حول دعم الجيش اللبناني، ولم تجد الدعوات اليتيمة لمحاربة الجيش أو ترك صفوفه أي صدى بين المسلمين السنة كما كان يخطط المسلحون. هنا وقعت أزمة الرهانات وسرّعت في اظهار فشل المخطط القائم على تمدد الإرهابيين في بيئة اعتقدوا أنها "ستثور" على المؤسسة العسكرية من طرابلس إلى المنية والضنية وعكار فأثبتت العكس. الوهم كاد يقتحم صفوف مناصري تيار "المستقبل"، بعد المواقف المتفاوتة نسبياً للنواب الثلاثة: محمد كبارة وخالد الضاهر ومعين المرعبي.

في زواريب التبانة وُجدت مخازن السلاح بين مساكن المواطنين الفقراء الأبرياء. من دفع ثمنها؟ من أمّن وصولها الى تلك الأحياء؟ من غض النظر عنها؟ ما هو المخطط الذي إستُجلبت من أجله الأسلحة؟ أسئلة يجهل أجوبتها فقراء التبانة، لكن المسلحين ظنوا أنّ كميات الأسلحة قادرة على فرض سلطة الأمر الواقع، مع وجود "بيئة شعبية حاضنة أو متعاطفة".

أول ضربة في مشروع الدويلة ظهرت في زواريب التبانة هي الخيارات الشعبية الملتزمة بالمؤسسة العسكرية. هنا نجح خيار تيار "المستقبل "، وتبين أنّ خط رئيس التيار الأزرق ​سعد الحريري​ يطغى على أيّ تحريض أو توجيه بطابع ديني طائفي أو مذهبي. رغم مواقفه السياسية ضدّ دمشق و"حزب الله" نجح خيار الحريري في زواريب التبانة وسقط خيار التطرف، فتصدر الحريري مجدّدًا المشهد العام بعد أن هدّد المتطرفون الشمال بالويل والثبور.. هنا المسألة مزدوجة: تبيّن فعلاً أنّ الحريري يملك القدرة في الساحة السنية أكثر ممّا تمتلك في عزها "مجموعات المشايخ" أو تلك المصنفة في خانة التيارات الأصولية المتطرفة، رغم التحشيد الديني والمذهبي واستغلال الفقراء. نادى الحريري بالثبات في المؤسسة العسكرية كواقع يستند إلى طبيعة اللبنانيين الملتزمين بتلك المؤسسة، بعد ان راهن المتطرفون على انشقاقات حرضوا لأجلها. نجح خيار الحريري الوطني وسقطت رهانات "الإسلاميين" بشأن الجيش اللبناني.

ما حصل في زواريب التبانة والمنية وبحنين والضنية وعكار أسقط الوهم. المشكلة ليست بين المتطرفين والجيش، ولا بين تلك المجموعات و "حزب الله"، بل بين "الإسلاميين" وتيار "المستقبل". هذا ما كانت تخبئه زواريب التبانة.

يدرك الحريري أنّ مشروع "الإسلاميين" التقسيمي تحت عنوان "الإمارة" يقصيه نهائياً وينهي وجوده السياسي. تلك التجربة حصلت في ساحات المنطقة من سوريا إلى مصر وليبيا. المجموعات المتطرفة لا تقبل الشراكة، ولا الرمادية ولا الخيارات الوطنية: اما في صفوفنا او في جبهة أعدائنا.

في زواريب التبانة نجح الجيش. للقيادة دور أساسي بالحسم دون تراجع. نجح العماد ​جان قهوجي​ في أصعب الظروف مستفيدا بالطبع من التفاف داخلي حول المؤسسة العسكرية والدعم الخارجي لخطوات الجيش اللبناني. وضعت القيادة الخطة القائمة على اساس "الانتصار السريع". كانت تثق القيادة هنا بأن زواريب التبانة لا تسبب لا الفرار ولا الانشقاقات. أساسا الهمروجة الإعلامية لبضعة عسكريين فروا في الأسابيع الماضية لا قيمة عملية لها. لم يتوقف الجيش عندها انطلاقا من فهمه لطبيعتها ومحدوديتها. مضى الجيش حاسما بتوجيهات القائد وتوق الضباط لإنجاز عسكري يحقق ما يريده الشعب. هذا ما حصل في ساعات الشمال.

دخل العسكر بسرعة الى زواريب التبانة رغم كل الصعاب وتداخل المباني. لاحق أيضًا الإرهابيين في المنية والضنية وعكار، بعد أن أجهض مشروع الدويلة الداعشية. لا يمكن الفصل هنا بين ما يجري في مختلف البقع المناطقية. المجموعات ذاتها تتوزع وتكمل بعضها.

مشهد الانجازات العسكرية رسخ الثقة المتبادلة بين المؤسسة والشعب. فإجتاز الجيش كل ما تم التخطيط له حول الإنشقاقات بحجة البيئة الحاضنة للتطرف. وظهّرت زواريب التبانة ما خبأته طويلا عن قدرة الجيش اللبناني متى اتخذ القرار.

لم يسقط الخطر، والانتصار في معركة لا يلغي الحرب. مشروع الارهاب قائم على امتداد مساحات المنطقة. قد يطل من البقاع او من الشمال او اي منطقة اخرى بأسلوب مغاير، طالما أنّ الأزمة السورية مفتوحة. صحيح أنه تلقى ضربة موجعة تحد من توسعه، لكن "الإسلاميين" سيحاولون المضي في المعركة واستغلال اي ظرف، مستفيدين من تحشيد رجال دين والمتورطين والمستوهمين.

نجح الخيار الوطني، لكنه لا زال عاجزًا عن ضرب بنية المشاريع المتطرفة. هنا تتداخل النكايات السياسية مع المصالح مع الارتباطات بالساحات الخارجية في غض الطرف، كما يحصل مثلا مع تقييم اداء خالد الضاهر من قبل "المستقبليين".

يكفي أيضاً أنّ العبرة في زواريب التبانة هي أنّ المسلحين أدوات مرحلية تنتهي أدوارهم حينما تحين ساعة الحقيقة مهما طالت. متى يُدركون؟