أنقذَ ​الجيش اللبناني​ الشمال من مشروع «الإمارة الاسلامية»، لكنّ الخطر لا يزال ماثلاً على رغم الانجاز بإزالة الوَكر الأمني من باب التبّانة.

كانت الدولة بمختلف أجهزتها، إضافة الى العواصم الغربية، تدرك وجود خلايا أمنية نائمة تستعدّ للاستيقاظ قريباً، وفق توقيت إقليمي مناسب، لكنّ أحداً لم يكن يتوقّع هذا الحجم وهذه القدرات التي كانت تمتلكها هذه الخلايا. كانت التوقعات الامنية تشير الى بضع خلايا لا يتجاوز عدد عناصر كلّ منها الـ 10، ليظهر، مع اندلاع المعارك، أنّ كل خلية تتألف من عشرات العناصر، ويصِل بعضها الى 70 عنصراً أو 80.

منذ أكثر من شهر، تقاطعت المعلومات الداخلية مع أخرى دولية بأنّ شيئاً ما خطيراً يُحضّر للشمال، انطلاقاً من طرابلس. يومها، اتخذ القرار بإنهاء المربّع الامني في التبّانة، فوضعت الخطة الامنية على وقع تصاعد عمليات استهداف الجيش، بدءاً من استهداف مراكزه وعناصره، مروراً بهَزّ وحدته من خلال التركيز على انشقاق عناصر عسكرية.

يومها، دخل على الخط بعض المسؤولين الطرابلسيين وسمعوا أنّ الجيش سيدخل لإزالة هذا المربّع، ولَو بالقوة العسكرية. ولَمسَ هؤلاء أنّ النقاش شَمل الكلفة البشرية لهذا الدخول، وضرورة تجنّب المسجد الذي يتحصّنون داخله.

لذلك، سارعت إحدى الشخصيات الطرابلسية إلى نَسج اتفاق يقضي بانسحاب المسلحين الى خارج طرابلس، مع تعهّد بعدم دخول الجيش الى المنطقة. لكن تبيّن لاحقاً أنّ الاتفاق كان مفخّخاً وهدفه التخدير ليس أكثر، حيث كان المسلحون يختفون نهاراً ثم يتسلّلون ليلاً الى المسجد برفقة عشرات المسلحين، ومن بينهم مسلحون سوريون.

لكنّ الوضع انفجر دفعة واحدة بعد اعتقال أحمد ميقاتي وشبكته الارهابية. وفيما كانت العواصم الغربية تراقب لحظة بلحظة تطوّر الأوضاع على الارض وتماسُك الجيش اللبناني، حصل تواصل مباشر مع الرئيس سعد الحريري الذي أعطى ضوءاً أخضر غير مشروط أمام الجيش لإجراء المناسب عسكرياً بهدف إزالة الحالة الشاذّة من طرابلس، مُرفقاً ذلك ببيان حَمل توقيعه.

عندها، تحرّكت الدبابات للمرة الاولى في اتجاه باب التبّانة، ويُروى أنّ «هيئة علماء المسلمين»، التي شعرت بجدية الموقف، طلبت وقفاً لإطلاق النار لأسباب إنسانية، قبل أن تطلب من المسلحين تَرك المربّع عبر سيارات الإسعاف أو بين الاهالي المُنسحبين منعاً لاكتشافهم.

في علم الحروب، يبقى غَضّ النظر مسموحاً أمام انسحاب المسلحين من أماكن سكنية، تجنّباً لإحداث دمار كبير شرط ملاحقة هؤلاء لاحقاً والاقتصاص منهم. ربما هذا ما سيحصل قريباً جداً مع عمليات واسعة سينفّذها الجيش وتُطاول القرى والجرود والحقول وتسمح بتمشيط كامل، ما يعني أنّ حصول اشتباكات أخرى مسألة واردة، على رغم أنّ المشروع الارهابي الكبير أُجهِض، لكنّ الاسئلة تبقى كثيرة ولا ينبغي تجاوزها.

فمع دخول الجيش المربّع الامني في باب التبّانة، اكتشفت كميات هائلة من المتفجرات، زُرع بعضها في براميل عند الجوانب المؤدية الى المسجد وينفجر بعضها لاسلكياً، فيما وجدت كميّات أخرى داخل هذا المسجد.

وهنا، لا بدّ من إيراد الأسئلة التالية: كيف وصلت المتفجرات الى هذه المجموعة؟ ومن هي الجهة التي زوّدت المسلحين كلّ هذا السلاح والذخائر؟ ومن هي الجهة التي تبرّعَت بإيصال كلّ ذلك من دون أن تخشى حواجز الجيش المنتشرة في المنطقة؟

صحيح أنّ المجتمع الطرابلسي وقفَ خلف الجيش وبَدا واضحاً أن لا بيئة حاضنة لهؤلاء، إلى جانب الإقرار بدور الحريري الايجابي في هذا الإطار، لكن يجب التوقّف أيضاً عند الذي قاله أحد وجهاء الضنية لدى استقباله أحد الضبّاط الكبار: «الحمد لله أنكم وصلتم بسرعة وإلّا كنّا مضطرين لإعلان تأييدنا لـ«جبهة النصرة»، لَو نجح المسلحون في فرض أنفسهم ميدانياً» .

وفي صيدا، ظهرت إشارات لا تقلّ خطورة. فالشيخ أحمد الاسير، الذي استقرّ في مخيم عين الحلوة منذ فراره من عبرا، لم يكن «عاطلاً عن العمل»، بل كان ينظّم خلاياه الارهابية الى حين توقيت المعركة التي لم تكن بعيدة على ما يبدو.

ومع اندلاع الاشتباكات، حصل تواصل بين طرابلس وعين الحلوة على أساس طلب المؤازرة، على رغم الاتفاق السابق بين الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية على إبقاء كلّ المخيمات خارج نطاق النزاع. لكنّ الاسير غرّد خارج الاتفاق، وأمر مجموعاته بالتحرّك لتنفيذ ضربات أمنية ضد مراكز الجيش، وهو ما لم يحصل كون استخبارات الجيش كانت له في المرصاد.

وإثر ذلك، وجّه الجيش، خلال الساعات الماضية، إنذاراً نهائياً للفصائل في مخيم عين الحلوة بضرورة تسليم جميع كوادر الأسير وعناصره، وإلّا سيضطرّ إلى التحرّك وفق كلّ الوسائل المُتاحة. لكنّ السؤال: كيف استعاد الأسير، بعد خروجه من هزيمة عبرا، قُدراته المالية و«التسليحية» وبناء شبكاته الأمنية؟ ومَن هي هذه الجهة التي تؤمّن له الحماية والرعاية السياسية والمالية؟

هذه الأسئلة ليست بسيطة كما يبدو للوهلة الاولى، وأهمية الإجابة عنها تكمن في تحصين الوضع الامني مستقبلاً أو دفعه الى مزيد من الانهيار. فهل يُعقل مثلاً أن يظهر أنّ اثنين من «نُزلاء فندق رومية» شاركا في التخطيط لِما حدث وتبقى الامور كما هي؟ إلى جانب المسرحيات التي ترافق هؤلاء المساجين وحصولهم على متطلبات التواصل مع الخارج وإدارة العمليات، ولا أحد يتحرّك؟!!

هل من باب المصادفة أو «البراءة» ترك الامور مُشرّعة في «سجن» هو الأخطر في العالم، إذ إنه يضمّ أخطر الارهابيّين؟ ألا يعني ذلك وجود قرار بالتسهيل؟... لتسهيل العمليات الارهابية وترتيب الخلايا وهَزّ الاستقرار؟

أسئلة لا بدّ من الاجابة عنها لكي لا تستمر قوافل الشهداء بلا تحقيق نتائج فعلية... حقيقة مؤلمة بلا شك.