في دارته البيروتية، والتي شهدت على مراحل عدّة من اليوميات اللبنانية، بحروبها الكثيرة وسلمها القليل، كان سياسي عتيق يقلّب في الساعات الماضية صفحات الجرائد، يقرأ أحداث الحاضر بما لديه في الذاكرة من مخزون الماضي، ما يجعله يتوقّع منذ الآن، تداعيات المستقبل من بوابة الجلسة المنتظرة الأربعاء المقبل للتمديد للمجلس النيابي.

كغالبية المتابعين، لم يتفاجأ السياسي المعني بما آلت اليه الأمور. فبالنسبة اليه، لم يكن لمسار الأحداث سوى نهاية واحدة وهي ​التمديد​ الذي يضمن إبقاء الوضع على ما هو عليه. ففي الوقت الحاضر، لا أحد مستعد للدخول في مغامرة البحث عن البدائل. لا يتعلّق الأمر هنا باجراء الاستحقاق الانتخابي او عدمه، وبمن سيحصل على الأكثرية في السنوات المقبلة ومن سينتقل الى المعارضة. لكن القضية مرتبطة بالإجابة على السؤال التالي: من سيحكم لبنان وكيف؟

يعود الوزير السابق الذي رافق عهوداً رئاسية وحكومية وبرلمانية 25 سنة الى الوراء، الى الثاني والعشرين من تشرين الأول 1989 تحديداً، يوم ابرم اتفاق الطائف، الذي لم يكن في الواقع دستوراً او ورقة مكتوبة او اتفاقاً بين اللبنانيين، "انما معادلة الامن في مقابل السيادة".

بالنسبة اليه، يمكن التحدّث لساعات وساعات، عن الثغرات وآليات الحكم والنقص في التمثيل، وسحب الصلاحيات من الرئيس المسيحي في نظام تعددي، ووضعها بالشكل في مجلس الوزراء مجتمعاً، ولدى رئيس الحكومة تحديداً بالمضمون والممارسة، ولكن الوقائع تشير الى أن معادلة الامن في مقابل السيادة التي كرسها الطائف، انتجت وصايات على مدى سنوات. والنظام المتشابك الصلاحيات، والمتعدد الرؤوس نشأ على اساس عدم امكان السير من دون وصاية، في ضوء غياب القدرة على بت الخلافات داخل المؤسسات".

ومن التعقيدات والنواقص الكثيرة، يسحب السياسي المعني مثال اعطاء الرئيس المكلف اجازة لتشكيل الحكومة من دون مهلة زمنية محددة للتأليف. ويسأل، هل ننتظره لعشر سنوات ونبقى في الفراغ؟ قبل ان يستنتج أن "هذا النظام وضع ليحكمنا الفراغ، ويملأ بالتفاهمات الخارجية لا بالارادة اللبنانية".

وهكذا، مرّت السنوات والنظام السياسي يعرج، فيستند مرة الى عكاز سوري، ومرة الى دعم سعودي او إيراني، وفي كل المرات الى مظلّة أميركية باركت منذ اللحظة الأولى التركيبة الجديدة التي منحت الطائفة السنّية في لبنان الأفضلية على سواها. ومع انتهاء الوصاية السورية، استمر النظام في تضعضعه مع سحب الراعي الإقليمي. واليوم، وفي ظل الصراع السوري-السعودي-الإيراني-الأميركي، لم يعد النظام قادراً على السير، وكل طرف يحاول أخذه الى ناحيته. ما قبل العام 2005، أدت التفاهمات الى تعيينات لا انتخابات على مستوى المؤسسات الدستورية. واليوم، فالترجمة العملية المحلية للصراع الإقليمي هي التمديد، على قاعدة أن لا احد قادر راهناً على الحسم، ولا أحد راغب به اصلاً".

ماذا بعد؟ في ضوء التجارب السابقة، يؤكد السياسي المعني أن المطلوب اليوم "صناعة معادلة جديدة تكون نتاج حركة ببطاقة هوية لبنانية. فما يولد في الخارج، يحتاج الى مظلّة الخارج، وما يصنع محلياً يحتفظ بجيناته القادرة على انتاج حركة داخلية لبنانية تبدّل وتصحح وتتطوّر من داخل المؤسسات".

ولكن هل ذلك وارد راهنا؟ الإجابة بالنسبة اليه بسيطة وهي لا. فطالما أن التمديد هو الخيار، فهذا يعني ان هناك من يختار اهون الحلول ولو كانت ستحمل معها في المستقبل، أسوأ النتائج. فحتى الساعة، لم تتولّد القناعة لدى الجميع بضرورة البحث عن المخارج. فالسنة بما يمثلونه ومن يمثلهم في تركيبة الطائف في غير وارد التنازل، والشيعة الذين يبحثون عن تعزيز حضورهم في النظام، يكتفون في الوقت الراهن بالحفاظ على مكامن القوة الحالية، الى أن تحين الساعة. اما المسيحيون والدروز، فيجمعهم الخوف من خسائر جديدة. وبينما يترجّم الدروز هذا الخوف بالسعي المستمر من قبل النائب ولد جنبلاط لركب الموجة الرابحة، فالمسيحيون العائدون الى النظام من غربة التهميش والنفي والسجن، يسعون بتمثيلهم السياسي الحالي، نيابياً وحكومياً، الى امتلاك حق الفيتو، للبقاء فاعلين على طاولة الحكم.

عملياً اذاً، دفع تيار المستقبل في اتجاه التمديد للحفاظ على مكتسباته، وسايره حزب الله وحركة امل للإبقاء على ما تحقق، واختار التقدمي الاشتراكي مركب التمديد حماية لما تبقى. ولم يبق امام الأحزاب والكتل المسيحية الاّ تسجيل لا رافضة "للتاريخ"...حتى لا يكتب انها وافقت على استمرار الواقع بخلله التمثيلي والديموقراطي، حيث لا انصاف ولا تشارك.

في خلاصته، يقول السياسي المعني إن لا بديل عن استعادة دور الراعي اللبناني للنظام، من خلال خريطة طريق قوامها تطبيق الشراكة وتحقيق المناصفة، فيسمح قانون الانتخاب بانبثاق سلطة يتمثّل فيها الجميع بحسب احجامهم، وتتشكّل حكومة تأتي نتيجة الأحجام التي تحددها الانتخابات. وحتى ذلك الحين، لن تكون جلسة التمديد الأسبوع المقبل، الاّ بمثابة ارجاء مراسم الجنازة لنظام سياسي توفّي في الخامسة والعشرين من عمره.