لا تشبه كربلاء غيرها من المدن "المقدّسة"، تمامًا كما أنّ أحداث ​عاشوراء​ لا تشبه غيرها من الأحداث التي يزخر بها التاريخ، بمختلف تشعّباته وألوانه، وهي التي لا تزال ماثلة في الأذهان رغم مرور أكثر من 1370 عامًا على حدوثها..

فعلى أرض كربلاء، قاد الإمام الحسين معركة "الإصلاح" في أمّة جدّه، رسول الإسلام النبي محمد، فانتصرت دماؤه وأصحابه وأنصاره على سيوف الطغاة، مجسّدة أطهر وأنقى معاني البطولة والتضحية والشرف، معانٍ يبدو المسلمون اليوم أحوج إليها من أيّ وقتٍ مضى، في مواجهة الكثير من "الأورام" التي تتفشّى وتتمدّد دون حسيبٍ أو رقيب..

معًا ندحر الإرهاب..

لأنّ زيارة العتبات المقدّسة في ​العراق​ لا تكتمل من دون المرور بكربلاء، حيث ضريح الإمام الحسين وأصحابه الذين استشهدوا معه في واقعة الطف، حطّت "النشرة" فيها خلال زيارتها الأخيرة إلى النجف الأشرف، على هامش مواكبتها "مهرجان الغدير العالمي" بنسخته الثالثة.

"معًا ندحر الإرهاب"، هكذا تقول اللافتات المرفوعة بكثافة على أطراف المحافظة، التي لا يمكن الوصول إليها بطبيعة الحال إلا بعد الخضوع لإجراءاتٍ أمنية مكثفة، إجراءاتٌ تفرضها طبيعة الأوضاع ودخول التنظيمات التكفيرية المتطرفة إلى الداخل العراقي، فضلاً عن التهديدات الكثيرة التي تصل إلى المعنيين، والتي تزداد وتيرتها بشكلٍ خاص في "مواسم الزيارة"، ولا سيما في شهر محرّم وفق التقويم الهجري.

لا يمكن أخذ هذه التهديدات إلا على محمل الجد، يقول المعنيّون، الذين يصفون منطقة مقام الإمام الحسين بـ"المربّع الأمني" بكلّ ما للكلمة من معنى. يقول أحد هؤلاء أنّ لا خروق جدية تُسجَّل داخل هذه المنطقة، الممسوكة بقبضةٍ حديديةٍ، إلا أنّ ما يحصل خارجها لا يمكن ضبطه. من هنا، يمكن تفسير التفجير الخماسي الذي وقع الشهر الماضي في كربلاء، والذي يقول المعنيون أنه وقع في مكانٍ بعيدٍ عن المقام، ولكن في مناطق شعبية يزدحم فيها عادة زوّار الإمام.

الموت لنا عادة..

ولأنّ تفجير كربلاء الخماسي وقع قبل يومٍ واحدٍ من زيارة "النشرة" للمدينة، فإنّ المفارقة التي بدت جلية للعيان تمثلت بالحركة الطبيعية في المقام، وكأنّ شيئًا لم يكن. لا شيء في المكان يوحي بأنّ الإرهاب استهدف زواره، ولا "رهبة" لدى هؤلاء سوى "رهبة" المكان نفسه وقيمته الدينية والمعنوية، وما يرمز إليه من معانٍ ودلالاتٍ في مخزون كلّ منّا.

لا شيء يدعو للاستغراب، بحسب أحد المسؤولين التنظيميين داخل المقام، وذلك انطلاقًا من الفضل الديني لهذه الزيارة، وفقًا لما يُروى عن أنّ النبي محمد أنه كان يزور زائر الإمام الحسين ويكرّمه، "فعن المعلّى أبي شهاب قال: قال الحسين عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبتاه ما لمن زارك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بنيّ من زارني حيًا أو ميتاً أو زارك أو زار أخاك أو زارك كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة وأخلّصه من ذنوبه".

أكثر من ذلك، فإنّ الكلّ يضع هنا الأمور الحياتية الدنيوية وراء ظهره، بل تصبح فكرة التضحية بالنفس التي جسّدها أصلاً الإمام الحسين في عاشوراء مطلبًا وأمنية بالنسبة لزواره. "التفجيرات أصبحت مسألة اعتدناها"، يقول المسؤول التنظيمي، ولو أقرّ بخطورة مسألة "الاعتياد" هذه، ولكنها لا تؤثر على عزيمة وحماسة الزوار. ويستشهد بقول معروف للإمام زين العابدين، وهو مكبّل بالسلاسل في موكب السبي، ومهدّدًا بالقتل من قبل ابن زياد، فتوجّه له قائلاً: "أبالموت تهدّدني يا ابن الطلقاء، إنّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"، وهي كلمة قد تكون أكثر من مناسبة لمواجهة الإرهابيين ودعاة الفتنة، وما أكثرهم اليوم.

لا يوم كيومك يا أبا عبد الله

وبعيدًا عن التهديدات الأمنية وغيرها من تطبيقات عاشوراء في واقعنا الحاضر، يبقى أنّ لمقام الإمام الحسين، كما لشخصية الأخير، "رهبة" تكاد تتفوّق على غيره من مقامات الأئمّة، وهي "رهبة" يمكن ملاحظتها بالعين المجرّدة من لهفة الزوار ودموعهم التي تنهمر بغزارة كلما اقتربوا من الضريح أكثر وأكثر.

يقول أحد الزوار أنّ لكلّ المقامات الدينية وهجًا وأهمية، لكنّ للإمام الحسين مكانة خاصة بسبب "حجم الظلم" الذي تعرّض له الأخير، وهو الذي يُلقَّب بـ"المظلوم"، وهو الذي تتفق كلّ المدارس الإسلامية على المكانة التي كان يحظى بها لدى النبي محمد وهو القائل: "حسينٌ مني وأنا من حسين"، ويشير آخر إلى أنّ جزءًا كبيرًا من الثقافة الإنسانية بشكل عام لا الإسلامية فحسب مرتبطة بحركة الإمام الحسين، وهي التي حملت عنوان الإصلاح، انطلاقاً من توصيفه الذاتي لحركته، بقوله "وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي أريد أن امر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

كلّ ذلك، إضافة إلى أحداث واقعة الطف في كربلاء حين حوصِر الإمام الحسين وأهل بيته ومُنِعوا من الماء على شدّة الحر ثلاثة أيام بلياليها رغم وجود النساء والأطفال والرضع معه، الحادثة التي لا تزال تشكّل حتى اليوم منارة مضيئة وصرخة مدوية، يعطي هذا المقام قيمة معنوية من نوع آخر، ويجعل الحشود تقبل عليها ولسان حالها يقول: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، لبّيك يا حسين"، وتنادي مع الإمام "هَيْهَات مِنَّا الذِّلَّة، يَأبى اللهُ لَنا ذَلكَ وَرَسولُهُ والمؤمِنون".

هذه كربلاء..

هذه هي كربلاء التي انتصر فيها الدم على السيف، والتي انطلقت منها جذور الثورة الحقيقية وعنوانها الإصلاح من الجذور..

هذه هي كربلاء التي يستذكر المؤمنون في هذه الأيام أحداثها كما لو حصلت أمس، ويبكون على الإمام وأهل بيته كما لو فقدوا حبيبهم أو قريبهم للتو..

باختصار، هذه هي كربلاء بنقاوتها وأصالتها...

* مع هذا التقرير، تختتم "النشرة" سلسلة التقارير الخاصة التي أعدّتها في إطار زيارة إلى العراق، بعد تقرير أول خصّص لمواكبة "مهرجان الغدير العالمي الثالث" وثانٍ عنمحافظة النجف وأوضاعها، وهي تقارير حاولت من خلالها نقل صورةٍ مختلفةٍ عن بلدٍ لم يمنعه الاضطراب الأمني الذي يعيشه منذ سنواتٍ من الانفتاح على غيره، وعن مقاماتٍ صامدةٍ في وجه كلّ الأعاصير والعواصف، التي تتوخى اقتلاع الإنسانية قبل أيّ شيءٍ آخر...