أسقط الجيش «إمارة» الإرهاب في شمال لبنان. لكن بعضاً من قياديّي الإرهاب فضلاً عن الكثير من خلاياه النائمة بقي، على ما يبدو، طليقاً ومختفياً.

قيل إنّ تسوية جرى حبكها في ليل قضت بأن يُسمح لاثنين من قياديّي «جبهة النصرة»، أسامة منصور وشادي المولوي، بالتواري مقابل سيطرة الجيش على أحياء التبانة والزاهرية والأسواق القديمة في طرابلس التي كانت مرتكزَ «إمارة» الإرهاب في ثاني أكبر مدن لبنان. لكن قيادة الجيش نفت ذلك وأكّدت «استمرار تدابيرها الأمنية لتعقّب بقايا المجموعات ومداهمة المناطق المشبوهة جميعاً»، ودعت «فلول الجماعات الفارة إلى تسليم أنفسهم للجيش الذي لن يتهاون في كشف مخابئهم أو يتراجع عن مطاردتهم حتى توقيفهم».

الحقيقة أنّ الجيش انتصر سياسياً وأمنياً. انتصاره السياسي تجلّى في إجماع مختلف القوى السياسية على دعمه، وبينها حزب المستقبل برئاسة سعد الحريري الذي يُعتبر الأقوى بين الأحزاب الإسلامية السنيّة، الأمر الذي جعله الجيش محور وحدة وطنية وشعبية لافتة. انتصاره الأمني تجلّى في إعادة سيطرته على مختلف أحياء طرابلس ومحيطها في منطقتي الضنية والمنية، والعثور على مخازن سلاح ومعمل لصنع المتفجرات وأسلحة وفيرة فضلاً عن نجاحه في توقيف أكثر من 162 إرهابياً وإحالتهم على القضاء العسكري.

مع ذلك يمكن القول إنّ انتصار الجيش سياسياً وأمنياً يبقى غير كامل ببقاء الكثير من الخلايا الإرهابية النائمة والممكن إيقاظها غب الطلب، وبوجود مجموعات إرهابية يٌقدّر عديدها بأربعة آلاف عنصر يحتشدون في منطقة القلمون السورية شرق محافظة البقاع المحاذية للحدود اللبنانية السورية.

للمجموعات الإرهابية مخطط ثلاثي الأهداف. الأول يهدف إلى اقتحام القرى اللبنانية الحدودية في البقاع لاتخاذها ملاذات دافئة تقيها ثلوج مرتفعات القلمون وصقيعها أثناء فصل الشتاء الذي بات على الأبواب. الثاني يهدف إلى حمل الجيش اللبناني على توسيع انتشاره في شتى أنحاء البلاد بغية إضعافه بعمليات إرهابية متفرقة تقوم بها خلاياها النائمة في مختلف المناطق. الثالث يهدف إلى تأمين منفذ بحري لتنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» وذلك بربط جرود القلمون السورية بمنطقتيّ رأس بعلبك والهرمل في البقاع ومن ثم بمنطقتيّ الضنية وعكار في شمال البلاد بقصد الوصول إلى البحر.

قدرةُ المجموعات الإرهابية على تحقيق أهداف مخططها باتت صعبة بعد انكسار شوكتها في مدينة طرابلس ومحيطها، لكنها ليست مستحيلة. لضمان هزيمتها مجدداً يقتضي تعزيز الوحدة الوطنية والشعبية حول الجيش من جهة، وتأمين تسليحه وتذخيره من جهة أخرى. هاتان المهمتان تستوجبان اتخاذ قرار سياسي حاسم ودائم من قبل حكومة تمام سلام التي تضمّ ممثلي معظم القوى السياسية الرئيسة في البلاد. صحيح أن لبعض القوى السياسية الممثلة في الحكومة مطالب وتحفظات من شأنها تأخير، وأحياناً تعطيل، التغطية السياسية اللازمة لعمليات الجيش في بعض المناطق الحساسة، لكن بإمكان قيادة الجيش، من تلقاء نفسها وبالاستناد إلى خطورة الظروف والتحديات التي تمر بها البلاد، أن تبادر إلى الفعل دونما انتظار قرار من الحكومة وذلك في كل وقت يجد الجيش نفسه هدفاً لهجوم أو اعتداء مباشر وسافر من أية جهة كانت. فالدفاع عن النفس كما عن البلاد من حق الجيش وواجبه دائماً وأبداً ولا يحتاج إلى ترخيص مسبق.

أما مسألة تسليح الجيش وتذخيره فهما وإن كانا يتطلبان اتفاقاً سياسياً مسبقاً، فإنهما ينطويان على ضرورة وطنية استثنائية لا تحتمل مناقشة أو مماطلة، ذلك أن الأطراف السياسية مجمعة على أن الإرهاب هو عدو البلاد كما هو عدو كلٍّ منها، وأن التنظيمات الإرهابية تشكّل تهديداً ماثلاً للجيش وللأمن الوطني على الحدود كما في الداخل. وعندما تكون المسألة على هذه الدرجة من الخطورة، فإن القيادات السياسية كما قيادة الجيش مدعوة إلى الارتفاع إلى مستوى التحديات المصيرية التي تحيق بالبلاد وإلى تجاوز كل أسباب الفرقة والاختلاف بغية توفير الأسلحة والمعدات النوعية اللازمة من كل المصادر المتاحة للدفاع عن الوطن والشعب والمؤسسات.

لا يجوز لأي قيادة سياسية، تحت أي ذريعة، أن تشترط في تسليح الجيش أن يكون مصدره من دول الغرب فقط. لا مانع من إعطاء دول الغرب أفضلية في توفير بعض الأسلحة والمعدات والعتاد اللازمين للجيش وفق الشروط والمعايير التي تضعها قيادته، لكن لا يجوز البتة التقصير في تسليحه إذا لم توافق دول الغرب على ذلك أو لم تستجب الشروط والمعايير التي تضعها قيادة الجيش. سيادة لبنان وأولوية الدفاع عن أرضه وشعبه ومؤسساته هما المحدِّدان الأساسيان لسياسته وحاجاته وسبل تأمينها.

في حال تأكدت قيادة الجيش من قصور وتقصير القيادات السياسية في مسألة الدفاع عن الوطن والشعب والمؤسسات، فإن من حقها، بل من واجبها، أن تكشف ذلك للملأ جهاراً نهاراً وأن تحمّل المسؤولين مغبة القصور والتقصير ونتائجهما الكارثية.

ثم لماذا المكابرة والمعاندة؟ لدى الكثير من المسؤولين الحد الأدنى من الحصافة السياسية لإيجاد مخرج عملي ولائق من هذه المشكلة المكلفة. أليس في مقدور هؤلاء أن يتوصلوا داخل مجلس الوزراء إلى تسوية تقضي بالحصول على الأسلحة والمعدات والذخيرة اللازمة للجيش من طرفي الصراع: الغرب وإيران في آن واحد؟ إن من شأن هذه التسوية توفير ما يحتاجه الجيش في هذه الآونة العصيبة من جهة وتوفير التوازن في التعاطي مع قوى الخارج من جهة أخرى، فلا يكون تسليح الجيش من مصدر وحيد، أياً كان، مدعاةً لإفادة طرف من طرفي الصراع دون غيره، سياسياً ومادياً وإعلامياً، من هذا الإنجاز الوطني الكبير، ولا أقول الصفقة الإستراتيجية.

في الظروف الاستثنائية يقتضي اجتراح حلول وتدابير استثنائية وإلاّ بقي الوطن أسير شبكة من السياسيين الصغار المنشغلين بصغائر الأمور.