فتحت ​جريمة بتدعي​ والتي ذهبت ضحيّتها السيدة الراحلة نديمة فخري وجرح زوجها وابنها، كوّة واضحة في الجدار الأمني في منطقة البقاع، وكشفت هشاشة بعض العبارات التي تحتاج لتظهير وتجسيد حام للجميع، وأضاءت على مسألة خرجت من إطارها المناطقيّ والعائليّ إلى التفاعل الطائفيّ في منطقة ترتجّ أرضها تحت ثقل المعارك في عرسال وبريتال. المأساة الكبرى أنّ عائلة فخري المفجوعة بهذا الغدر، لا تختلف بالمعنى السياسيّ عن العشيرة المعنيّة، التي استنكرت إجرام بعض أفرادها في حقّ آل فخري، مثلما دلّت بعض الوقائع. ذلك أنّ مسيحيي البقاع الشماليّ وصولاً إلى البقاع الأوسط مهجوسون من خطورة "داعش"، فهل من المعقول والمقبول أن يعيشوا في وسط هاجسين متراكمين، هاجس داعشيّ وآخر داعشي بالأسلوب في مجموعة مذهبيّة أخرى؟

الكوّة التي فتحت، لا تعني "القوات اللبنانيّة"، والتي لجأ قائدها بصورة واضحة إلى المواجهة مع "حزب الله" مستهلكًا هذا العنوان بالذات كما هو دأبه في كل لحظة أو مناسبة من زاوية التبويب السياسيّ، بل تعني بصورة مباشرة "التيار الوطني الحر" وعلى رأسه العماد ميشال عون كما تعني "حزب الله" خارج التبويب السياسيّ الذي يرتضيه بعضهم من باب استغلال الأحداث وإسقاطها في سلوكيات ملتهبة على الأرض اللبنانيّة.

ذلك أنّ من قرأ العماد عون، أو سمع الحاج حسين الخليل، حول التكامل الوجوديّ أو وحدانيّة الجسد، تساءل سرًّا وعلنًا، عن واقعيّة التكامل بالتفاعل الموضوعيّ مع تلك الجريمة، والسؤال المطروح بإلحاح، ألم يتوجّع الجسد وترتجف أعضاؤه لهول هذه الجريمة وقساوتها في منطقة يعيش أهلها تحت الخطر الداعشيّ ويشكون دومًا من التسيّب الأمنيّ؟ ليس صحيحًا على الإطلاق أنّ التكامل بلغ الكمال، فإذا ما درسنا على أرض الواقع معظم التجاوزات الأمنيّة التي تحدث في مناطق لا تزال تعتبر خطوطًا حمرًا، والتي تمتد بين منطقة الحدث وكفرشيما أو عين الرمانة في أحيان كثيرة، وقد شكا بعض كوادر "التيار الوطني الحر" منها غير مرّة، نرى أن صفة التكامل تظلّ هشة وجوفاء.

مصدر سياسيّ تابع تلك الجريمة بوضوح تام، تساءل لا في معرض الذم بل في معرض النقد البنّاء: "ألا تستحقّ تلك الجريمة الوحشيّة التفاتة من العماد ميشال عون، خارج التبويب الإعلاميّ أو السياق الدعائيّ، ليطلب من حزب الله رفع الغطاء عن المجرمين، وبالأحرى تسليم المجرمين إلى القضاء، وهو في تكامل وجوديّ واضح مع الحزب؟ ولنذهب بالاتجاه المعاكس، ألا تتطلّب تلك الجريمة أن يقف الحزب عند خاطر العائلة المفجوعة، وهي غير بعيدة سياسيًّا لا عنه ولا عن التيار، ويقوم بعملية تنقية واضحة للمناطق التي تعتبر جزءًا من حراكه السياسيّ والأمنيّ وتحتسب عليه؟" وأردف قائلاً: "العملية هذه بالذات مطلوبة منه كما هي مطلوبة من الدولة بتناغم كليّ، فهو قادر على دحض نظرية أخصام الحزب بأن مناطقه لا تزال سائبة، ومحشوّة بالفارين من وجه العدالة ومن عصابات سرقات السيارات وأسيادهم المجرمين". وتابع محلّلاً: "خطورة داعش على أهل البقاع الشماليّ والأوسط تتوازن مع الخطورة التي يمثّلها هؤلاء على مسيحيي المنطقة بالتحديد، والمطلوب من حزب الله مساعدة الجيش بقوة للقيام بحملة أمنية تطال مناطق بريتال ومحيطها، لتطهيرها من العابثين بأمنها وسوقهم إلى العدالة كما حصل في طرابلس". وبالتحليل المبسّط، إنّ جريمة بتدعي، وعلى الرّغم من النقد الذي وجّه للوزير نهاد المشنوق حول كلامه الحاد الذي أطلقه في ذكرى استشهاد اللواء وسام الحسن، إلاّ أن تلك الجريمة البشعة كشفت صوابيّة المحتوى بالمعاني الأخلاقيّة والسياسيّة والأمنيّة. كلّ الحماقة أن ندّعي بأنّ العطب الأمنيّ آحاديّ الجانب، والفلتان الأمنيّ موجود عند جهة واحدة من دون أيّ إدراك بأنّه عميم.

لقد آلمت فظاعة الجريمة الرأي العام اللبنانيّ بكلّ أطيافه وألوانه. ما حصل في الحقيقة هو جريمة أقدم عليها الفاعلون عن سابق تصوّر وتصميم. وبقدر ما يبدو الموضوع جنائيًّا بكلّ ما للكلمة من معنى يندرج تحت قانون العقوبات، إلاّ أن قراءته بالمعاني السياسيّة والأمنيّة تبقى الأشمل. ونتائجها ملقاة على عاتق دولة تعيش في فراغ مطلق، ترتجّ أسسها بالصراعات العاصفة في الداخل والخارج، كما هي ملقاة على عاتق فريقين أساسيين معنيين بصورة مباشرة هما "التيار الوطني الحر"، والرؤى متجهة نحو تفاعله مع جمهوره، وتلك العائلة المفجوعة على ما يبدو هي من جمهوره، وعلى "حزب الله" وبخاصّة أمينه العام السيّد حسن نصرالله الذي يمثّل الوجدان الشيعيّ بغالبيته المطلقة، وله بدوره تفاعله الخلاّق مع شعبه في البقاع الشماليّ والجنوب والضاحيّة الجنوبيّة، كما له تأثيره حتمًا على العشائر التي تنتمي إلى خطّه السياسيّ، وتلك العائلة غير بعيدة عن الجوّ السّائد على وجه العموم في البقاع.

إنّ التكامل الوجوديّ الذي أعلنه العماد عون وردّ عليه الحزب بالتوجّه عينه يقتضي أن يقتحم الثغرات الأمنيّة اللافتة، والتي سيستغلّها الخصوم بحقد دفين ومعلن، ليوجّهوا سهامهم القاتلة إلى ماهيّة التكامل ومحتواه. لكنّ المفارقة هنا، أن الأصدقاء والحلفاء والمؤيدين تفاجأوا بهذا التفاعل الفاتر تجاه تلك الجريمة من قبل التيار والحزب، فيما المطلوب وببساطة كاملة أن يتواجدا معًا في بتدعي ودير الأحمر لطمأنة المواطنين الآمنين في بيوتهم، والخائفين على حياتهم، والراجين حياة كريمة تحت رعاية الدولة.

إنّ المطلوب في تلك الظروف الدقيقة، أن يرفع الحزب الغطاء عن كل متسيّب بالأمن، ويعبّد الطريق للجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة حتّى تضرب بيد من حديد، وتشدّد على الأمن الأهلي والداخليّ بأمن وقائيّ ومن ثمّ احتوائيّ وبعد ذلك استئصاليّ في مناطق حسّاسة ومعرّضة لهجمات داعشيّة ما بين عرسال وسواها.

ليست جريمة بتدعي عابرة على الإطلاق، إنها جريمة لها محتوى أمني وسياسيّ يجب توضيحه ومعالجته بالطرائق المناسبة. فإمّا أن يبسط التكامل الوجوديّ حضوره من الضاحية الجنوبية إلى الجنوب والبقاع الشماليّ، وهو حتمًا ساهم في مناسبات عديدة بإنقاذ لبنان بالعمق الاستراتيجيّ من الإنهيار، وساهم بتأليف تلك الحكومة، ومن ثمّ كفاح الإرهابيين، أو أنه يبقى مجرد شعارات تعبر عن مشاعر صادقة، غير أن العبرة تبقى في التنفيذ.

رحم الله السيدة نديمة فخري وحفظها في سلامه وحنانه، وحمى لبنان من الفتن المعدّة له على الرغم من إرادة الجميع ببقاء الاستقرار، والاستمرار به بديلاً عن الفراغ.