ليست المرّة الأولى تثار فيها "زوبعة" في لبنان بسبب "فسادٍ" هنا أو هناك، ولن تكون المرّة الأولى على الأرجح أيضًا التي تنتهي فيها هذه "الزوبعة"، دون أسفٍ عليها، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه، وكأنّ شيئًا لم يكن..

رغم كلّ ذلك، فإنّ "العاصفة" التي أثارها ملف الأمن الغذائي الذي فتحه وزير الصحة ​وائل أبو فاعور​ على مصراعيه الأسبوع الماضي فتحت الباب أمام تسجيل "مفارقاتٍ" من النوع "الفاقع"، لعلّ أكثرها خطورة أنّها أثبتت بما لا يقبل الشكّ أنّ "الفساد" بات له منظّرون ومؤيّدون بل محامون، دون حسيبٍ ولا رقيب.

ملف سجالي آخر..

كما كلّ الملفات "الساخنة"، دخل ملف الأمن الغذائي وفضائحه السجالات اللبنانية التي لا تنتهي. وعلى جري عادتهم، انقسم اللبنانيون في مقاربتهم لهذا الملف، وإن لم يكن هذا الانقسام مرتبطًا مباشرة بالتوجّهات "السياسية" المعتادة.

هكذا، خرج البعض ليشيد بوزير الصحة وائل أبو فاعور، الذي تحوّل إلى "نجم الشاشات" شبه الأوحد. برأي هؤلاء، فإنّ الوزير حقّق "إنجازًا" لم يسبقه عليه أحد ووضع صحة المواطن فوق كلّ اعتبار، غير آبهٍ بالانتقادات والاستفزازات التي تعرّض لها من رفاق الصف الحكومي الواحد قبل غيرهم، ولا بالحملات العنيفة التي وصل جزءٌ منها لحدّ الهجوم الشخصي على الوزير المعني، بوصفه مسّ بـ"المحظورات".

ولكن، في مقابل هذا البعض "المرحّب"، كان هناك من لا يتردّد في رفع الصوت اعتراضًا، وذهب البعض لحدّ الدفاع عن مؤسساتٍ "فاسدة"، مع "افتراضهم" صحّة الاتهامات الموجّهة ضدّها. وممّا قيل في هذا السياق أنّ ما فعله أبو فاعور لا يعدو كونه "قطع أرزاق"، أو أنّ "فضائح" من هذا النوع أتت كـ"رصاصة الرحمة" على القطاع السياحي المنهار أصلاً، أو أنّ خطوة من هذا النوع لا نفع لها إذا لم تكن ستستكمَل، أو أنّ الوقت ليس مناسبًا لفتح ملف من هذا النوع بالنظر إلى الأزمات والكوارث التي يمرّ بها الوطن على غير صعيد.

الوقت ليس مناسبًا!

الوقت ليس مناسبًا، يقول المعترضون، وما أكثرهم. ولـ"منطقهم" هذا حججٌ لا تُعَدّ ولا تُحصى، فـ"داعش" تدقّ الأبواب وتهدّد بالدخول في أيّ لحظة، والوضع الأمني في أسوأ حالاته، والانتخابات الرئاسية لم تتمّ حتى الآن رغم مرور أشهر على موعدها الدستوري، وبالتالي فإنّ البلاد تعيش فراغًا رئاسيًا يُخشى أن ينتقل إلى مستوياتٍ أخرى، ولذلك لم تتمّ الانتخابات النيابية وأقرّ التمديد المثير للجدل، دون أن ننسى الملفات الساخنة الأخرى من تداعيات النزوح السوري وأعبائه على الداخل، إلى قضية العسكريين المخطوفين التي تنذر بالأخطر، مرورًا بأوضاع المخيمات التي تعود إلى الضوء بين الفينة والأخرى.

إزاء كلّ ذلك، كيف يكون الوقت مناسبًا؟ أصلاً متى كان مناسبًا؟ أليس لبنان بلد "المرحلة الحسّاسة" بامتياز؟ وهل من يتذكّر مرحلة مرّت على لبنان ولم تكن "حسّاسة" بكلّ ما للكلمة من معنى؟ وهل تعني "حساسية" المرحلة الجلوس مكتوفي اليدين بانتظار "فرجٍ" لن يأتي؟

أكثر من ذلك، أليست الحجّة نفسها التي استُخدِمت يوم أقرّ ​قانون منع التدخين​ في الأماكن العامة، والذي تحوّل بفضل هذه الاعتراضات لمجرّد حبرٍ على ورق لا يقدّم ولا يؤخّر؟ أليست هذه الاعتراضات التي جعلت قانونًا من هذا النوع خارج المحاسبة؟ وأليست هذه الاعتراضات نفسها هي التي وقفت حائلاً أمام أيّ خطوةٍ قد ينطبق عليها وصف إصلاحية؟

قصة "نكايات"؟!

وبغضّ النظر عن "التحفظات" التي أطلقها البعض على خطوة وزير الصحة، ومنها ما قد يكون قابلاً للبحث والنقاش، على غرار فكرة "تسمية المخالفين بأسمائهم"، وإن كانت التجارب السابقة أثبتت عدم جدوى "التعميم"، أو ما ذهب إليه البعض لجهة الحديث عن "ظلمٍ" يتعرّض له البعض على حساب غيرهم، إلا أنّ ذلك لا يمنع من تسجيل الملاحظات على أداء المعارضين، ممّن "تطوّعوا" للدفاع عن المؤسسات المخالفة، بل "تباهوا" بالذهاب إلى هذه المؤسسات "نكاية بالوزير"، على حدّ تعبيرهم.

وبعيدًا عن نظرية "المؤامرة" التي يبدو اللبنانيون أسرع الناس بـ"تبنيها" في كلّ المناسبات، ومن دون إعطاء "صكّ براءة" لا للوزير أبو فاعور ولا لغيره من المسؤولين الذين لا يبدو واقعيًا تصديق أنّ أيًا من خطواتهم "الإصلاحية" قد تشمل "الأقربين"، فإنّ الوقوف في مواجهة هذا النوع من الخطوات لا يبدو منطقيًا بأيّ شكلٍ من الأشكال، وإن لم يكن الأمل كبيرًا بأن تكون "خواتمها سعيدة"، ولكن أقلّه يمكنها أن تكون "خطوة في مسار الألف ميل". وبالتالي، فإنّ "هواجس" البعض من الخطوة، ولو كانت سليمة، سواء لجهة "أغراضها السياسية"، وأولها التغطية على التمديد وغيره، أو لجهة "ارتداداتها على الأرض"، لا يجب أن تقف حائلاً دون السير بها إلى النهاية، لعلّ وعسى تكون بداية جديدة.

بين مواجهة إسرائيل والفساد..

يقول قائل أنّ مواجهة العدو الاسرائيلي أسهل من مواجهة الفساد في لبنان، ذلك أنّ الفساد متغلغل بشكلٍ لا يقبل الجدل، بل إنّ جميع "اللاعبين" على الساحة اللبنانية "متورّطون" به بشكلٍ أو بآخر، وما المواقف التي يطلقونها سوى جزء من "المزايدات" التي يجيدونها ويتفنّنون بها.

وإذا كانت الخلافات السياسية قد فعلت فعلها على صعيد العلاقات الاجتماعية نفسها بين اللبنانيين، فإنّ الخطر حين تنعكس هذه الخلافات على القضايا الاجتماعية وفي مقدّمها الفساد، بل إنّ الخطر الأكبر يكون حين يصبح لهذا الفساد "محامون"، وهو ما ظهرت بوادره للأسف الشديد خلال الأيام القليلة الماضية...