"الآتي أعظم"، قالها وزير الداخلية والبلديات ​نهاد المشنوق​، "مبشّرًا" اللبنانيين بـ"سنة صعبة" على الصعيد الأمني، مع تأكيده على أنّ الوضع يبقى مضبوطًا ومتماسكًا حتى إشعارٍ آخر.

وعلى الرغم من أنّها ليست المرّة الأولى التي "يهوّل" فيها السياسيون على الشعب، باعتبار أنّ "سياسة الرعب" باتت نهجًا يتقنونه منذ بزوغ نجم "الظروف القاهرة" التي تبرّر "التمديد" للمجلس النيابي، فإنّ تصريحات المشنوق لم تمرّ مرور الكرام، باعتبار أنّها أثارت الكثير من التساؤلات المشروعة لجهة توقيتها ودلالاتها.

حرائق المنطقة تصيب لبنان؟

برأي مصادر متابعة، فإنّ وزير الداخلية لم يُطلق تصريحاته "التهويلية" من العدم، بل هو يستند فيها إلى جملة معطياتٍ خارجيةٍ مُقلقةٍ تصله بشكلٍ متواتر، معطوفة على إدراكه العميق لأزمات الداخل المتشعّبة من الاستحقاقات المعطّلة إلى الحوارات المجمّدة، مع ما يحيط بها من تصعيدٍ خطابي لا يمكن تجاهله.

وتشير هذه المصادر إلى أنّ الوضع في المنطقة متجهٌ نحو التأزّم أكثر وأكثر، ولا شيء في الأفق يوحي بـ"فرجٍ" من أيّ نوعٍ، سواء في سوريا أو العراق، بل إنّ "الحرائق" في كلا البلدين ستتّسع أكثر وأكثر، وممّا لا شكّ فيه أنّ لبنان ليس جزيرة معزولة، وبالتالي فهو سينال "نصيبه" من تردّدات هذه الأزمات على أكثر من صعيد، خصوصًا أنّ في لبنان خلايا وتنظيمات تعتبر ما يجري في سوريا والعراق مسألة وجودية، وهي ستكون مستعدّة للتحرّك متى شعرت بالتهديد الكياني الجدّي، ولن تبقى حينها مكتوفة الأيدي.

وفيما تلفت هذه المصادر إلى تمدّد التنظيمات المتطرفة والإرهابية في المنطقة، والتي باتت تضع لبنان في صلب "أجندتها"، وما قضية العسكريين المخطوفين وقبلها المواجهات مع الجيش، وهي المرشحة للتجدّد في أيّ لحظة، سوى خير دليلٍ على ذلك، تشير إلى أنّ أزمة النازحين السوريين مرشحة هي الأخرى للتفاقم، خصوصًا مع بدء ارتفاع الأصوات والشكاوى هنا وهناك، الأمر الذي سيكلّف لبنان المزيد من الأعباء ليس فقط الاقتصادية والاجتماعية بل الأمنية أيضًا.

الجهوزية لا تزال ناقصة..

الخطر موجود إذًا وقد ينفجر في أيّ لحظة. ولأنّ "الندم" لن ينفع عندما تأتي هذه اللحظة، فإنّ "أسلحة المواجهة" يفترض أن تتوفر ويجري إعدادها من الآن.

تشير المصادر إلى أنّ وزير الداخلية بنفسه حدّد هذه الأسلحة بثلاث مقومات لا رابع لها، ألا وهي التماسك الوطني، الاحتراف الأمني والشجاعة الفقهية لدى رجال الدين، ولكن وبخلاف "تفاؤل" الوزير وحديثه عن "جهوزية" للمواجهة، فإنّ هذه المصادر تشكّك بتوافر المقوّمات الثلاثة المذكورة آنفًا. وهي تشرح وجهة نظرها انطلاقاً من مقوّم الاحتراف الأمني، الذي لا يزال ينتظر ترجمة الوعود المقدّمة للأجهزة الأمنية، ولا سيما ​الجيش اللبناني​، على أرض الواقع، فالمؤسسة العسكرية لم ترَ اليوم سوى "تنظيرًا" عن "هباتٍ" لم تحصل عليها عمليًا بعد. وحتى مع افتراض "النيات الحسنة"، فإنّ "المماطلة" لا تجدي هنا، ولو كان سببها إجراءات بيروقراطية روتينية وإدارية، لأنّ "المعركة" قد تنشب في أيّ لحظة، علمًا أنّ قائد الجيش العماد جان قهوجي كان قد طلب مساعداتٍ فورية وعاجلة إبان معركة عرسال الأخيرة، وقد نشر يومها الكثير عن نفاد ذخيرة وما إلى ذلك.

ومع ذلك، يبقى تأمين هذا الاحتراف الأمني أسهل بأشواط من تحقيق المقوّمين الآخرين، فالشجاعة الفقهية لدى رجال الدين لمواجهة الفكر المتطرّف والتكفيري لا تزال خجولة جدًا، هذا إن وُجِدت، بل إنّ هناك بين من يطلقون على أنفسهم رجال دين من يدعمون مثل هذه الجماعات ويحرّضون دون حسيبٍ ورقيبٍ، حتى أنها يحظون بالرعاية والحصانة من قبل الكثير من الجهات.

أيّ تماسك وطني؟

أما التماسك الوطني، فحدّث ولا حرج. لا تتردّد المصادر في وصفه من "المستحيلات". لا تستند في ذلك فقط إلى الخطابات النارية والتصعيدية ولا الاتهامات الخطيرة التي يتبادلها الأفرقاء السياسيون على غير صعيد، ولا تتوقف عند التوافق الغائب تمامًا عنهم حتى على "مبدأ" الحوار والتلاقي بين "الخصوم" كما هو حاصل اليوم، حيث يتقاذفون كرة المسؤولية ويتردّدون في الجلوس على طاولةٍ واحدةٍ، ولكنها تنطلق بشكلٍ أساسي من "الفراغ" المتفشّي في الدولة، من رأسها إلى أخمص قدميها، بغياب أيّ مؤشراتٍ من شأنها وضع حدٍ له في القريب العاجل، كما من التجارب السابقة التي تؤكد أنّ الكثير من السياسيين لا يتوانون عن "استغلال" أيّ أحداثٍ دموية و"توظيفهم" لصالحهم في السياسة، عبر التصويب على الآخر وتحميله المسؤولية، دون مراعاةٍ لمشاعر أحد.

ولعلّ ما يزيد من الخطورة على هذا الصعيد، كما تقول المصادر، عودة ​المحكمة الدولية​ إلى الواجهة فجأة وبعد طول انقطاع، وذلك من بوابة "الإفادات السياسية"، التي تُسجَّل حولها الكثير من علامات الاستفهام، وخصوصًا مع عودة الاتهام، ولو تلميحًا، إلى سوريا بعد أن تمّت "تبرئتها" في وقتٍ سابق وتحويل الاتهام منها نحو "حزب الله". وإذا كان الأفرقاء انقسموا في قراءة هذه العودة بين من قال أنها مجرد محاولة "إثبات وجود" ومن قرأ فيها "احترافية عالية"، فإنها أثارت المخاوف والهواجس من انعكاساتٍ أمنية لها، خصوصًا أنّ معظم التوترات التي ضربت لبنان في السنوات الماضية كانت مرتبطة بشكلٍ أو بآخر باستحقاقاتٍ لهذه المحكمة علاقة مباشرة بها، ولا شكّ أنّ هذه القضية تعقّد الأجواء أكثر وأكثر، باعتبارها مادة سجالية منذ البداية، بظلّ وجود فريق سياسي يعتبرها "أداة سياسية" تريد "تصفيته" أولاً وأخيرًا.

تحصين الساحة أولاً..

سواء كانت المخاوف حقيقية أم لا، وسواء كان الآتي أعظم أم لا، يبقى تحصين الساحة وتحقيق التماسك واجبًا على السياسيين في حال أرادوا فعلاً التكيّف مع الشعارات التي يرفعونها لناحية اهتمامهم بمصلحة البلد.

وحده مثل هذا التماسك، بمعزلٍ عن كلّ المقومّات الأخرى، من شأنه أن يقطع الطريق أمام كلّ المصطادين بالماء العكر، وكلّ مريدي الفتنة والفوضى في البلد. فهل من يسمع؟!