ما معنى فكرة التقريب؟ هي رفع الوهم بحرية الكلمة وتبادل المعرفة، بخلاف الإسقاط بلا حرية وتبادل، فإنه تعسف يؤدي إلى تنافر خصوصًا إذا لبس الفكر مسوح القداسة، وهذا المنهج هو الذي أتى به الانبياء، ففي خطاب المولى (عزّ وجل) لعيسى (ع): "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين". وفي خطاب المولى للمشركين: "إنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين".

المشكلة في نزعة الإنتماء وهي لا تنحصر في الخطاب الديني والمذهبي، بل هي نزعة بشرية موجودة بين أي صفتين حتى لو كانتا من عنوان واحد، كالمسلمين والنصارى، واليهود والقوميين، والجغرافيات المحدّدة، ولكنها في الخطاب الديني تبدو أكثر حدة لارتباطه بالمطلق واعتقاد أتباعه بصدق المدعى وعليه تتخذ المواجهات الدينية والمذهبية حدة أكثر ويسجلها التاريخ وغيره وتتناقلها الأجيال نظرا لتجذّر الإنتماء، وكل حزب بما لديهم فرحون.

ونحن هنا يهمنا أن نعود إلى الفكرة الاولى في معنى التقريب، وهنا مربط الفرس، إذ إنّ الحرية الفكرية وضمانها كفيلتان بتحقيق مساحة من الراحة والتثاقف والتعارف بما يشعر معه الإنسان مهما كان انتماؤه بأنه يملك حق التعبير عما يختلج في نفسه ومتجذّر في اللاوعي عنده، أن يخرج مكنونه المقدّس من نفسه ويعبّر بما يشاء عما يقوله ويحبّه.

فاذا تأمّن ذلك الفضاء في التعبير والتعارف، وعاش أصحاب الاديان في رحاب أفكار بعضهم البعض، كان الحَكَمُ هو الحق الذي يمكن أن يدعيه كل فريق من المتخاصمين لا من المتعادين، فالخصومة تتطلب الموضوعية والثقافة والجهد المطلوب من الاخلاق والسماحة في استماع الاخر، وإلا فإن نزعة الانتماء الفطرية تتحول من التعارف الى التفاخر ثم إلى التقاذف وفي احسن الاحوال الى الانعزال والتحصن خلف حصون الانتماء المذهبي والطائفي.

وعليه، فمن منطلق الحرص على ادعاء المقدّس الذي يوصل الى هدف واحد مدّعى بدوره من الجميع وهو مصلحة الانسان والمجتمع وصلاح الاجتماع البشري المنشود، فإنّ فتح نوافذ الحرية الثقافية بكل ما تعنيه كلمة الثقافة هو عبارة عن إطلالة لكل فريق على ما عند الاخر وله أن يحكم بما يشاء وعندها يكون الوصول الى إحدى النتيجتين: إما تغيّر الرؤي الفكرية وإما الى تلطيف النظرة المريبة للآخر، وكلا الامرين حسن، فهل يمكن ان نتبارى في ميادين الحوار فيمن يملك المحبة والوئام والفضائل الانسانية المحمودة، وهل يمكن ان نتبارى بأخلاق رموزنا الدينية والمذهبية؟ وهل تتحول متاريس الكراهية والعدوان الى متاريس المنافسة، فمن يقدم اكثر من الاخر في ميدان الانسانية الدافئة التي يشعر بدفئها كل انسان مهما كانت مشاربه؟

إنّ الحاجة الى تفهّم الوحدة والتقريب يحتاج إلى سُنّة حسنة متمثلة بقدسية الانفتاح لا الانتماء فقط، اذ لا نلاحظ في ايامنا إلا قدسية الثاني فقط.

فان للتقريب فلسفة ينبغي على الجميع أن يدركها بحسب تفاوت المعارف، ولعلّ في تجارب مجتمعنا أفضل مثال، فعندما كانت المواطنة غالبة على ثقافة المجتمع، كانت تلك الثقافة تستبطن الوداعة والسماحة بين أبناء الوطن، وكان المسلم والمسيحي والسني والشيعي يتجاورون ويتبادلون الصحبة والمصير المشترك، وكذلك كانت الصراحة وحرية التعبير مع كامل الإحترام المتبادل هي السائدة. أما عندما انفتحت أبواق التحريض المذهبي والطائفي، تلاشت تلك الثقافة، ثقافة المواطنة التي يحن إليها الجميع بلا شك، وهنا أقول أن المصير المشترك والعدو التاريخي المشترك مما لا يدع مجالا للشك بأن لا مفر من تعاون الجميع على حفظ بلادنا ومستقبل أجيالنا، ولا غنى عن مساهمة أي فريق في صناعة الحاضر والمستقبل، ولقد جرّبنا ثقافة المنافسة والتشتت وإلى الأن لم تورث لنا إلا مزيدا من التقهقر والخراب ومن ثم الفناء، ونصبح لعنة الأجيال من بعدنا بعدما يحصدوا شر ما فعلته أيدينا، لا بل سيلعننا أبناؤنا ونحن في قبورنا. إن إعادة النظر في الحقوق المتبادلة التي يقنع بها كل فريق، مثل الحرية ونظم التعارف وتكافؤ الفرص، وتساوي الحقوق والواجبات الوطنية، وفي اي مجتمع، مدخل أساسي لتمهيد الأجواء المناسبة للتفهم ثم للتفاهم على ما يبني.

أما آن لمجتمعاتنا أن تدرك بأن ثقافة التعارف هي ثقافة تربوية ترتقي إلى مستوى القداسة، وأما آن لأهلنا في هذه البلاد الفسيحة التي هي موطن الأنبياء أن يكونوا أوفياء لهم، لا نرتكب ما بعثهم الله لمواجهته والقضاء عليه.

ولعل التجرّد والتواضع هما أولى ضحايا الفرقة، ألا نلاحظ بأن كثيرا من القيم الأخلاقية التي يرجوها الإنسان لنفسه تضيع وسط معمعة التناحر، بحيث تصبح رخيصة أمام غاية الإنسان الضيقة آنذاك، وهي الفوز والغلبة ومحو الآخر، وكفى وعظا وقاعدة ذهبية في العلاقة بين البشر قوله تعالى: " لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي". فنحن جميعا عبيد الله الذين نتساوى فيما بيننا في ضعفنا ومحدودية أعمارنا، فالتقوى أن نتبادل النصح والمعرفة والوجه الحسن، وهذه أهم ما يمكن أن يرضي الله تعالى، مع الاحترام المتبادل لعقائدنا وما تمليه منظومات الأديان والمذاهب من تفاصيل مسلكية وفقهية، إذ بذلك نمثّل خير تمثيل ما ندّعيه فخرا واعتزاز بهويتنا الدينية أو المذهبية، بل هو أهم ما يتجلّى في لوازم الإنتماء وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.