تتركز إفادة مروان حمادة على ثنائية قوامها، التحالف بين النائب وليد جنبلاط وبكركي في وجه الدور السوري في لبنان منذ عام 2000، على إيقاع خطة المحافظين الجدد مع وصول جورج بوش إلى الحكم في أميركا ومبادئ وخطط كشفت عنها وثيقة «كلين بريك»، التي تحدد العراق وأفغانستان كهدفين لحروب أميركية مقبلة، وذلك قبل أن تقع أحداث الحادي عشر من أيلول بعام كامل، وهي الوثيقة التي ترى سورية العقبة التي لا بد من كسرها لتسهيل مرور الخطط الأميركية، وتقول إن الطريق هو محاصرة سورية بتركيا و«إسرائيل» وتهديداتهما، والاحتلال الأميركي للعراق، وتحريك أمواج مناهضة لسورية من لبنان، والبعد الثاني في ثنائية حمادة هو التمديد للرئيس لحود والجبهة الداخلية المناوئة لهذا التمديد وتصويرها كامتداد لحركة استقلال وطني في وجه سورية، مخفياً أنها امتداد للحرب المفتوحة على سورية من واشنطن، وبعد نجاحها بعد اختبارات حرب العراق بإخضاع باريس، وتجنيدها ومعها تجنيد السعودية، لتقاسم أعباء الحرب التي بقيت سورية صامدة في وجهها، مقابل تقاسم العائدات، وتحول إسقاط التمديد إلى شركة مساهمة لهذا الحلف الداخلي والخارجي.

يتجاهل حمادة عمداً، موقع الحريري في المرحلتين، كمشروع داخلي يتمتع بعلاقات وازنة إقليمياً ودولياً، ويصوّره كبطل استقلال وطني مناهض لسورية، بينما هو لم يكن لا مناصراً ولا مناهضاً، ونظرته إلى الاستقلال نظرة براغماتية، يعرف أنها لا تستقيم بالتبعية لخارج آخر، خارج هو على الأرجح «إسرائيلي» بخلفية فرنسية أميركية مدعومة سعودياً، ويعرف الحريري أنّ المصالح التي يمثلها لحساب داخلي وخارجي، تستدعي أن يدير العلاقة مع سورية وفقاً لمعادلة غير الـ«مع» والـ«ضد»، فالحريري لم يكن مع سورية ولا مع جنبلاط ولا مع بكركي ولا مع شيراك ولا مع بوش، كان الحريري مع الحريري فقط.

لم ينضمّ الحريري إلى شركة مناهضة سورية في لبنان عام 2000، بل راهن على تميّز علاقته بالمسؤولين السوريين لمناهضة عهد الرئيس إميل لحود، لكنه استثمر على الحالة المناهضة لسورية، للحصول على المزيد من المكاسب في الحكم، تحت شعار أنّ هناك مناوئين تستدعي مواجهتهم تحسين وضع الحريري السياسي ليتولى حماية العلاقة اللبنانية السورية من جهة، وتسويقها في باريس على الأقل من جهة ثانية، وهي لم تكن قد هزمت بعد في موقعة دي فيليبان، ونفيت إلى واترلو جديد وتنضوي تحت العباءة الأميركية، وفي التمديد ومناهضته كرّر الحريري الاستثمار على الحلف الخارجي والحلف الداخلي لكنه لم يكن جزءاً من أيّ منهما، كانت شراكات من نوع الاستثمار المتبادل، والحريري كان يعتبر نفسه لاعباً بحجم شيراك، ويعطي لنفسه حق الاجتهاد في قراءة المصلحة ليس لما يمثل داخلياً فقط بل لحلفائه أيضاً، ويظنّ نفسه قادراً على التصرّف منفرداً وقادراً على العودة إليهم مقنعاً أنه حقق إنجازاً، وفي التمديد كان رهانه أن شيئاً لن يتغيّر بينه وبين هؤلاء الحلفاء وفي مقدمهم الرئيس الفرنسي، لكن أشياء كثيرة تغيّرت، فالمشروع المرسوم للمنطقة لا يتسع لاجتهادات الحريري ومفاجآته.

يتجاهل حمادة ما يعلمه جيداً، وما يعلمه كثير من اللبنانيين، عن مرحلة ما بعد التمديد، ببعدين داخلي وخارجي، حيث صارت رئاسة الحكومة وتشكيلتها هما العنوان، فلماذا لم يقل حمادة شيئاً عن هذا، أليس من الطبيعي لمن خاض الحرب على التمديد وكان بطل الحرب، باعتبار التمديد وصاية سورية مرفوضة، أن يتابع مقاومته لـ«الاحتلال» السوري ووصايته، ويرفض المشاركة في حكم ممدّد له، إذا تخطينا تفسيرات حمادة الهمايونية لموافقة الرئيس الحريري على التمديد خوفاً، فهل سعيه إلى رئاسة الحكومة كان خوفاً، أم طلباً تعذّر تحقيقه؟

تشرين الأول من عام 2004، كان مساحة لمشاورات يعرفها حمادة جيداً ويتجاهلها عمداً وعنوانها «الحريري رئيساً للحكومة»، وحمادة قد لا يعلم كلّ تفاصيل سياقات هذا التطور لكنه يعلم نتائجها كأحداث معلنة عنوانها «الحريري رئيساً لحكومة التمديد»، وهذا بذاته يكشف أيضاً من جهة مقابلة أنّ سورية لم تكن تضع في حسابها الحريري كخصم تسعى إلى إبعاده، بل كقوة سياسية محلية ذات وزن إقليمي دولي تسعى لتحييد تأثيرها السلبي من جهة وتوظيف قدراتها الإيجابية من جهة مقابلة، وقد تسنى لي في حوار مع الصديق العميد رستم غزالة يومها في سياق مناقشة خيار التمديد بعد حسم القرار لدى الرئيس بشار الأسد، أن تداولنا بفكرة الزواج بين تمديد ولاية الرئيس لحود وعودة الرئيس الحريري إلى رئاسة الحكومة، والتمهيد لهذا الخيار قبل حسم التمديد، بعد الحصول على موافقة الرئيس بشار الأسد الذي شجع غزالة بقوة على السير بالفكرة، وبعدها بأيام كنا في السيارة معاً وغزالة يقود، ونسير وحدنا نفكر ونناقش، فطلبت الرئيس الحريري هاتفياً وناولت الهاتف إلى غزالة بعد التحية وإبلاغه أني برفقة العميد غزالة ويودّ محادثته فتحادثا، وتوجهنا إلى دارة الحريري، وتركتهما معاً، كعادتي في عدم الرغبة بحضور هكذا مناقشات، على رغم إصرارهما عليّ للبقاء والمشاركة، فاكتفيت بطرح العناوين التي أراها ضرورية لشرح أهمية هذه العلاقة التعاونية بينهما وللبنان ولسورية متمنياً التوفيق لاجتماعهما، الذي علمت منهما بعدها أنه أفضى إلى التفاهم على التداول جدياً بالفرضية، ووضعها على الطاولة بعد إنجاز التمديد، «الحريري رئيساً للحكومة الأولى في عهد لحود الممدّد».

ما بعد التمديد نجح الحريري في الحصول على تغطية الرئيس الفرنسي جاك شيراك لشراكته في الحكومة رئيساً لها، ولم يكن في جعبة الذين أخذوا القرار 1559 ما يفعلونه بعد، فقامت خطتهم أميركياً وفرنسياً وسعودياً على تسهيل وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة من جهة، وتواصل يؤمّنه تيري رود لارسن، الذي عيّن ناظراً للقرار، من جهة ثانية مع سورية، ليقول إنّ القرار صار وراءنا لجهة التمديد، وأنّ الباقي منه بندين، هما خروج القوات السورية وحلّ الميليشيات والمقصود حزب الله، وانّ واشنطن وباريس تدركان استحالة تحقيق الهدفين معاً، بل تثقان باستحالة حلّ قضية سلاح حزب الله من دون تعاون سورية، فيمكن الموافقة على اعتبار الوجود السوري شرعياً وفقاً لاتفاق الطائف وما نصّ عليه من إعادة انتشار وتفاهم على اتفاقية تتجدّد بتغطية دولية كلّ خمس سنوات، طالما أن الرئيس السوري بشار الأسد قد قرّر تنفيذ إعادة الانتشار وبدأ خطوات عملية في هذا الاتجاه والرئيس الحريري يتبنى صيغة الطائف خريطة طريق توافقية للقرار 1559، منعاً للتصادم الغربي مع سورية، وتسهيلاً لمهمته الحكومية، وكلّ ذلك مشروط بقبول سورية تولي سلاح حزب الله، فتوجه لارسن بهذه الفرضيات إلى بيروت.

يعلم حمادة ماذا جاء يفعل صديقه لارسن في بيروت، ولماذا ذهب إلى دمشق، ويتجاهل ذلك عمداً، لأنه يعلم أنّ لارسن المكلف من واشنطن وباريس بصفقة مع دمشق لم يكن آتياً لدعم حركة «الاستقلال» الكاذبة التي يتحدث عنها حمادة، وكشف الرئيس لحود بعد نهاية ولايته مراراً عن مضمون لقائه بلارسن الذي تفاجأ بجدية لحود في التعاون مع الحريري في رئاسة الحكومة وكذلك بتقبّل دمشق الإيجابي لهذه الرئاسة، ويعلم حمادة جيداً ما سماه الحريري يومها بغسل القلوب، على الأقلّ إذا كان حمادة يقرأ صحيفة «النهار» التي أسهب في تخصيصها بساعة من شهادته، لأنها أفردت عنواناً خاصاً لغسل القلوب في تلك الفترة مختصرة مضمون لقاء لحود الحريري الأول بعد التمديد.

الأمر لم يكن بلاعبين معلومين فقط، دمشق وباريس وواشنطن، خارجياً، ولحود والحريري داخلياً، لقد كان في واشنطن وباريس «إسرائيل»، وحصتها من الشركة المساهمة سلاح حزب الله، والسعودية وحصتها اللعبة السورية، الداخلية، وكانت هناك داخلياً عقدة حسم مشاركة النائب وليد جنبلاط في الحكومة وماذا في حال عدم مشاركته؟

حلقة الغد لارسن في دمشق وجنبلاط خارج الحكومة.