ما إنْ أُعلِن تأجيل مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني إلى الصيف المقبل، حتى انطلقَت التحليلات، في محاولةٍ لتفسير أسباب عدم الوصول إلى اتّفاق نهائي بين إيران والدوَل الخمسة زائداً واحداً.

بعض هذه التحليلات اعتبرَ أنّ حال المفاوضات بين إيران والدول الغربية هي كحال العلاقة بين العرب وإسرائيل، فهنا لا حرب ولا سلم، وهناك لا اتفاق ولا مجابهة.

وكثير من هذه التحليلات قدّم تفسيرات تتناسَب ورغبات أصحابها السياسية، فيما كانت قليلة هي التحليلات الموضوعية التي حاولت قراءة المشهد كما هو، فلم تندفع بعيداً في التفاؤل قبل ان تتوجّه الوفود الى فيينا، ولا سقطت في وديان اليأس بعدما عادت هذه الوفود الى بلدانها بلا اتفاق.

ويعتقد أصحاب هذه التحليلات الموضوعية انّ المفاوضات بين اطراف جدّية تملك نوعاً من التوازن في القوى ستستغرق وقتاً طويلا، هكذا كانت حال المفاوضات الاميركية ـ الفيتنامية في السبعينات من القرن الماضي ومفاوضات «ايفيان» بين فرنسا والجزائر في أوائل الستينات والمفاوضات المصرية ـ الاسرائيلية قبل معاهدة كامب ديفيد وبعدها، خصوصاً في مسألة طابا.

فالمفاوضات هنا هي اختبار إرادات، وفي حالة فيينا فإنّ الإرادة الإيرانية أقوى من أن تنكسر، ولكنّها ليست من القوّة التي تسمح بكسرِ إرادة المفاوض الآخر. وقوّة الغرب ايضاً كبيرة على كلّ المستويات ولكنّها ليست من القوة التي تسمح بكسر الإرادة الايرانية.

من هنا يعتقد أصحاب هذه التحليلات أنّ السبب الرئيسي لتأجيل «الاتفاق النهائي» سبعة أشهر هو لأنّ المعسكرين ليسا جاهزين لتقديم التنازلات الضرورية لإنجاز هذا الاتفاق.

فداخل مجموعة الخمسة زائداً واحداً، هناك حكومات باتت أكثر اقتراباً من الموقف الايراني، كالموقف الروسي والصيني، خصوصاً بعدما حمّلت موسكو دوَل الغرب مسؤولية فشَل مفاوضات فيينا وأعلنَت أنّها سترفع تدريجاً العقوبات الاقتصادية عن إيران، وأنّها ستشجّع الصين على ذلك، وهو أمرٌ يدرك الغرب عموماً، وواشنطن خصوصاً، خطورته في ضوء ملامح تشكُّل منظومة اقتصادية ومالية كبرى من دوَل «البريكس» تنافِس وتستقلّ عن النظام المالي العالمي الذي قادته الولايات المتحدة الاميركية منذ اتّفاقات «بريتون وودز» التي أنشأت البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فيما أنشأت لقاءات قادة دوَل «البريكس» في اوستراليا ملامحَ بنك دولي آخر برأسمال بقيمة 400 مليار دولار وتبحث في إنشاء صندوق نقد دولي آخر.

وداخل المعسكر الغربي ذاته نجد تفاوتاً بين الموقف الفرنسي الأكثر تشدُّداً إزاء ايران وبين الموقف الالماني الذي تُعبّر عنه مفوّضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الاوروبي كاترين آشتون، وتقف بريطانيا بين الموقفين وهي المتلهّفة لأن يكون لشركاتها نصيبٌ وافر من الاستثمار في ايران بعد رفع العقوبات.

أمّا داخل الولايات المتحدة فالانقسام بين الرأيين جليّ وواضح، حيث يقف الرئيس باراك اوباما وبعض فريقه متحمّسين لإنجاز تسوية تاريخية مع ايران يختتم بها ولايته الثانية ليؤكّد للاميركيين انّه دخل البيت الابيض وقد كانت بلادهم تعيش تداعيات حربين شنَّهما سَلفُه جورج بوش الابن، بالاضافة الى أزمة مزمِنة مع ايران مرّ عليها رؤساء اميركيون منذ إدارة الرئيس رونالد ريغان وحتى اليوم. وبالتالي فأوباما سيخرج من الرئاسة وقد أخرجَ جنودَه من العراق وأفغانستان، كما أنهى الأزمة الطويلة مع ايران.

الفريق المناوئ لأوباما، وقد بات مسيطراً على الكونغرس بمجلسَيه، لن يعطيَه هذا «المجد»، بل إنّه يحاول إرباكه وإضعافه في سَنتيه الأخيرتين لكي يحرم الديموقراطيين من الرئاسة بعدما حرمَهم من المجلسين.

وطبعاً تقف وراء هذا الفريق لوبيات متقاطعة مع اسرائيل التي تخشى ان يعزّز الاتفاق دور ايران ومحور المقاومة في المنطقة، كذلك تقف وراءه ايضاً دول نفطية عربية ما تزال تخوض نزاعاً مع طهران وتعتقد انّ على طهران ان تحلّ مشكلاتها معها قبل ان تحلّها مع واشنطن، ولا تستبعد هذه التحليلات ان تكون موسكو نفسها ذاتَ مصلحة في تأجيل هذا الاتفاق بغيةَ الضغط على واشنطن وحلفائها في مواجهة الضغوط الغربية عليها.

لم يكن سهلاً على وزير الخارجية الاميركي جون كيري وخلفه اوباما ان يتجاهلا هذه الضغوط والتي يعتقد المحلّلون انّ استقالة وزير الدفاع الاميركي تشاك هاغل المتزامنة مع إعلان تأجيل الاتفاق مع ايران إحدى تجلّيات هذه الضغوط، حيث مثّلَ هاغل، رغم حزبيته الجمهورية، عنصر اعتدال في الإدارة الاميركية مستعيناً بموقف جنرالات البنتاغون.

ويضيف المحللون أنّ المعسكر الايراني نفسه يشهد وجودَ تيّارَين، أحدُهما متشدّد يقوده «الحرس الثوري»، وآخر أكثر انفتاحاً يقوده الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته الدكتور محمد جواد ظريف. ذلك انّ التيار المشتدد يخشى ان يقود الاتفاقُ مع واشنطن الى ترجيح كفّة المعتدلين في ايران بعد غياب العداوة مع واشنطن واسرائيل والتي طالما استمدّ منها المتشدّدون قوّتهم ومنطقَهم.

ويقول المحللون أنفسُهم إنّ المفاوضات بين طهران وواشنطن هي مفاوضات سياسية، وإنْ اتّخذَت مظهر الخلاف النووي، وإنّ المحادثات بين الجانبين، ولا سيّما منها البعيدة عن الاضواء، لا تنحصر بالملف النووي رغم حرص الايرانيين على فصل الملفات بعضها عن بعض، ومن الصعب ان تنعقد جلسة بين مسؤولي البلدين من دون التطرّق الى ملفات أُخرى أبرزُها النزاع مع اسرائيل والأزمات السورية والعراقية واللبنانية، بالإضافة الى أزمة العلاقة بين ايران ودول الخليج العربية.

ولذلك يسعى كلّ طرف الى تجميع اوراق في تلك الملفات تسمح له ان يعزّز موقعَه التفاوضي مع الآخر. ومن هنا نفهَم تصريحَ قائد الحرس الثوري الايراني في يوم الإعلان عن تأجيل المفاوضات بأنّ هدف الغرب من الضغط على ايران ليس الملف النووي، بل هو حماية الكيان الاسرائيلي.

على أنّ نبرة هؤلاء المحللين التي يطغى عليها التشاؤم لا تلغي احتمالات التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق، وإنْ طالَ الزمن، لأنّ جميع الاطراف الاقليمية والدولية محكومة بمثل هذا الاتفاق، إذ إنّ البديل منه يُدخِل المنطقة بأسرها في المجهول، وهو أمر يذكّر باتفاق هلسنكي بين موسكو وواشنطن عام 1973 والذي اعتُبر بدايةَ انتهاء عصر «الحرب الباردة» بين القطبَين الكبيرين. فهل يُنهي الاتفاق الايراني ـ الاميركي عصرَ «الحرب الفاترة» والطويلة بين طهران وواشنطن؟

الأشهر السبعة المقبلة ستحمل الجواب، ولكنّها قد تحمل أيضاً كثيراً من السخونة في عدد من الجبهات. فالمتشدّدون في كلّ طرف سيجدون في الأشهر السبعة هذه فرصةً للسير في مخطّطاتهم الى أبعد مدى.