بعد التحية،

أود بداية أن أعرب عن تقديري لقيام وزارة الصحة بالكشف عن المخالفات التي ارتكبتها مؤسسات تجارية ومطاعم عديدة، والتي طاولت الصحة العامة من خلال تسويق مأكولات موبوءة وفاسدة، وأثمّن على نحو أخص إعلانها أسماء هذه المؤسسات، كي يعرف الناس من يعتدي على أبسط حقوقهم، ويدركوا حجم المخاطر التي يعرضهم لها جشع البعض وإهمال البعض الآخر.

تعرفان جيدا * ماذا يقول الناس، إن وراء هذا العمل أغراضا سياسية، وإنه سوف تجري لفلفته، وإنه انتقائي وكيدي... أعرف جيدا وتعرفان أيضا غطرسة المتسلطين، وإن كنتما ربما فوجئتما بمدى وقاحتهم، فإنني لم أفاجأ أبدا. ألا تذكران حجة محتلي الأملاك العامة الذين حالما سمعوا عن إمكانية تغريمهم على مخالفاتهم المزمنة، راحوا يبتزون العاملين لديهم ويهددون بصرفهم بحجة أن مؤسساتهم «السياحية» هي التي تعيلهم؟ هنا أيضا تكررت المعزوفة.

ملئي ثقة أن التفسيرات المناوراتية سوف تسقط أمام إصراركما على استعادة المواطنين شيئا من الثقة بالدولة، وأن وقاحة المرتكبين لن تزيدكما إلا عزما على مواجهتهم ومعاقبتهم.

أردت توجيه هذه الرسالة إليكما للفت الانتباه إلى وجه أساسي من المسألة:

إن الإجراءات الإدارية التي يخوّل القانون وزارة الصحة (ووزارات أخرى) اتخاذها في حالات كهذه تراوح بين سحب الترخيص ومصادرة البضاعة والإقفال الجزئي أو المؤقت للمؤسسة. إجراءات كهذه مبرّرة إذا كانت المؤسسة فردية بحيث تتطابق الشخصية المعنوية للمؤسسة مع الشخص الطبيعي المرتكب، لكن الإشكال يحصل في كل مؤسسة لا تكون فردية وتضم أجراء، وهي الحالة الغالبة. في حالات كهذه لا بد من تحديد المسؤولية الشخصية وهوية المرتكب، عمداً أو إهمالا، فإذا كان المرتكب أجيراً، وجبت معاقبته شخصيا ومعاقبة كل من كان مطلعا على أفعاله وتغاضى عن الإبلاغ عنها، ولا يجوز في المقابل معاقبة المؤسسة ككل كأنها شخص طبيعي. أما إذا كانت المسؤولية تقع، كليا أو جزئيا، على صاحب المؤسسة أو أحد شركائه، فعندها أيضا لا يجوز معاقبة المؤسسة ككل، أولا لأنها ليست شخصا طبيعيا يتحمل مسؤوليات جزائية، وثانيا لأن معاقبتها تؤدي إلى الإضرار بمصالح العاملين فيها من الأجراء بقدر أكبر من الإضرار بمصالح المرتكب، إذ إن الخسارة المادية (مصادرة أو إقفال) والتسويقية (السمعة والشهرة) تترجم خسائر على المؤسسة وتدفع أصحابها إلى صرف العاملين فيها دون أي ذنب لهم، فلا يبقى لهم سوى مراجعة مجالس العمل التحكيمية التي تؤول، بعد انتظار طويل، وفي أحسن الحالات، إلى الحكم بتعويض صرف هزيل.

ما أدعو إليه هو وضع آلية تنسيق بين وزارتي الصحة والعمل (وكل من وزارات الاقتصاد والتجارة والزراعة والصناعة والزراعة - لكون كل من هذه الوزارات تتحمل أيضا مسؤوليات في الرقابة على المطاعم والمواد الغذائية- من جهة، ووزارة العمل من جهة أخرى) يؤدي إلى قيام وزارة العمل، إذا اتخذت إحدى الوزارات المذكورة بحق مؤسسة ما إجراء إداريا في سياق قمع مخالفات ارتكبت فيها، بوضع هذه المؤسسة تحت المراقبة للتأكد من أن إدارتها لن تصرف أيا من العاملين لديها خلال فترة لا تقل عن ستة أشهر. وإذا عمدت الإدارة إلى عمليات صرف، أن تراجع الوزارة القضاء لإبطال الصرف ووضع حراسة قضائية على المؤسسة، تكون مهمتها حماية الأجراء، والتأكد من تغطية أصحاب المؤسسة الخسائر التي تترتب على المؤسسة، من جراء الأفعال التي ارتكبوها من أموالهم الخاصة، وفي حال امتناع أصحاب المؤسسة عن تغطية خسائرها وعن استمرار تشغيلها، بيع الحارس القضائي المؤسسة إلى مستثمر آخر يتعهد تأمين استمرارية عملها وعمل الأجراء فيها، وإلا إلى تعاونية ينشئها الأجراء فيما بينهم لهذا الغرض. وذلك كله انطلاقا من أن مخالفة صاحب مؤسسة ما لقواعد السلامة العامة لا يجوز أن يتحمل مسؤوليتها أحد من الأجراء، بل يجب أن يتحملها هو شخصيا.

تجدر الإشارة إلى حدث حصل خلال سنة 2013 في فرنسا: أعدّت شركة فرنسية تدعى «سبانغيرو» (Spanghero) مأكولات مبردة يفترض أن تحتوي على لحوم أبقار باستخدام لحوم خيول مستوردة من رومانيا. فعاقبتها وزارة الصحة بسحب الترخيص الصحي الممنوح لها. على أثر ذلك صرفت الشركة حوالى 250 عاملا. وبعد مرور سنة على الحادث بيعت الشركة إلى مستثمرين جدد وبقي غالبية العمال المصروفين دون عمل. فأثار الموضوع الانتباه إلى ضرورة تدارك المفاعيل غير المرتقبة لعقوبات يفترض أن تصيب أصحاب المؤسسة المخالفة بينما تقع أعباؤها في الحقيقة على أجرائها الأبرياء.

أود أخيرا أن أقترح عليكما وعلى الوزراء المعنيين الآخرين تنظيم رقابة مستمرة على كل المؤسسات الفندقية والمطاعم والمتاجر التي تبيع مواد غذائية، وعلى المصانع التي تنتجها ومستورديها من الخارج، بطريقة عشوائية، بحيث تتناول ألف مؤسسة كل أسبوع، على أن تنشر نتائج التحاليل أسبوعيا وتتضمن أسماء المؤسسات المخالفة، وأيضا أسماء المؤسسات المطابقة، كي تكون الصورة كاملة ومتوازنة، مثلما تنشر أسعار العملات ومؤشرات البورصات وتوقعات الطقس.

وتفضلا بقبول بالغ تقديري واحترامي،

* نص كتاب أُبلغ إلى وزيرَيْ الصحة وائل بوفاعور والعمل سجعان قزي، في 21 تشرين الأول 2014