ببراغماتية لا يجيدها سواه يتعاطى الرئيس أمين الجميّل مع مستقبل يعتقد أنه يناديه من بعبدا. غالبًا ما ينجح الرئيس السابق في دوزنة “أدرينالينه” الرئاسي وفي كبح حنينه الى أيام القصر الغابرة. ورغم كلّ احتياطاته تفضحه كلماته ومساعيه التي يضعها أبناء حزبه في خانة الحنين الى الجمهورية المفقودة لا الى كرسي بعبدا الخشبي.

رغم أن سنّ الجميل الأب لا يقلّ عن سنّ العماد ميشال عون سوى بستّ سنوات ونيّف، ورغم أن الشيب يجتاح شعره من دون أن تبدو علامات التعب عليه، إلا أن ابن الـ73 عامًا ما زال مؤمنًا بأن العمر الرئاسي أمامه. تلك القناعة دفعته الى فضخ ترشيحه رسميًا من 14 آذار، وهي نفسها تلك القناعة التي دفعته الى إطلاق مبادرةٍ لطاولة حوار رئاسيّة من دون تسيير “دوريّاتٍ” على أبواب أحد لاستئذانه بمباركة الطرح حتى بكركي نفسها.

يجيد رمي الطعم...

في إسقاط براغماتية الجميل على حزبه يتّضح أن التمايز الذي غالبًا ما يبحث عنه الكتائبيّون حتى ولو على حساب تنصّلهم من مظلة تحالفهم الكبرى إنما هو وليد التطبّع بما تسمّيه قاعدة الكوادر: حنكة الرئيس. تلك الحنكة هي التي تثنيه عن إعلان ترشيحه رسميًا حتى الساعة على ما تؤكد مصادر كتائبيّة مقرّبة من الجميل الأب لـ”​صدى البلد​”، مشيرةً الى أن “الرئيس يجيد رمي طعمه في بحر الرئاسة من دون أن يصطاد السمكة إلا في الوقت المناسب”. ليس أمين ابن اليوم أو الأمس، فهو الذي عايش الـ”فخامة” ولاية كاملة يعرف جيدًا أن الشروط والمعايير الرئاسيّة تبدّلت كثيرًا اليوم وأن المظلة الإقليمية والدولية التي دعا هو نفسه منذ ساعاتٍ الى رفعها عن لبنان لينتخب رئيسه بنفسه لا يمكن إلا أن تفعل فعلتها وأن تكون لها يدٌ طولى إن لم تكن كلّ اليد في “صناعة” رئيسٍ بعد اختمار التسويات تمامًا كما يختمر النبيذ في خوابي القصر الشاغر.

لم يعتد الجميل...

لم يعتد أمين الجميل منذ عودة ميشال عون وتحرير سمير جعجع أن يكون “فجًا” من دون أن يردعه ذلك عن تمرير لطشاتٍ قد لا يجيدها أحد سواه بالأسلوب والنهج المعتمديْن. ليس رجل بكفيا الأول من سيصمت عن إقصائه عن كرسي بعبدا بصراحةٍ من قبل عماد الرابية الذي دعا الى حصر المنافسة بينه وبين جعجع متجاهلاً ما يسمّيه الكتائبيّون في منظومة “الكليشيهات” اللفظية السياسية: حيثيّة الأمين. الردّ لم يكن يتيمًا، فبعد الضرب على وتر الإلغاء في إشارة الى عون وحربه المختلَف على تسميتها، كان الردّ في اليوم التالي أقسى وأكثر وضوحًا وتعريةً لنوايا الجميل بدعوته الى حوارٍ وطني لجلسة واحدة حول الرئاسة في مسعى الى إنهاء الشغور.

“تمريك” أهداف

ربّما هو الحنين الصارخ الى مقتنيات القصر ومناسباته البروتوكولية ووقفاته البريستيجية مع السيّدة جويس، وربّما هو جسّ نبض برمي حجر في مياه الرئاسة الراكدة. بالنسبة الى مصادر الكتائب هو الاحتمال الثاني بلا شكّ، إذ تؤكّد لـ”البلد” أن “الأمر لا يتعلق بحنين بقدر ما يحمل بعدًا مرتبطًا بالشغور الذي تحوّل فراغًا. فالرئيس الجميل لم يتحدّث يومًا عمن يجب أن يملأ هذا المنصب، وبالتالي هو حنين الى الجمهورية المفقودة والشاغرة لا الى كرسي الرئاسة”. لا تتجاهل المصادر حقيقة أن الجميل أعلن أنه مرشّح 14 آذار لكنها تتمسّك بحرفيّة كلامه لجهة عدم قوله: أنا المرشح الوحيد أو انتخبوني لوحدي أو مع رجل ثانٍ وثالث”. الى هذا الحدّ استفزّ طرح عون “الحصري” الكتائب، لدرجة الغمز من قناة الرابية و”هفواتها”. وتشير المصادر الى أن “المسألة لا تقوم على تمريك أهداف في مرامي بعضنا بعضًا ولكن هناك قواعد ديمقراطية يجب احترامها لا أكثر ولا أقل”.

رئيسٌ من هذه الطينة...

ولكن هل يمتلك الجميل حظوظًا رئاسيّة جديّة؟ وهل هو مقتنعٌ في قرارة نفسه، عندما يخلد الى فراشه ليلاً، بأن في استطاعته أن يكون مرشحًا توافقيًا؟ تجيب المصادر: “الجميل يمتلك من التجربة ما يكفي لأن يتعامل مع الموضوع الرئاسي بحنكةٍ وحكمة. بمعنى أنه لم يعلن ترشيحه بشكل نهائي ولا يمكن أن يفعل ذلك إلا بعد استكمال كلّ المشهد المحيط بالاستحقاق، أي أنه يدرك المصاعب عند كلّ فريق بدءًا بـ14 آذار وصولاً الى 8 آذار، كما يُدرك تمامًا تمنيات كلّ فريق والتي يصبّ جزءٌ كبيرٌ منها في خانة البحث عن رئيس توافقي وتسووي لأن رئيسًا من هذه الطينة قد يسهّل عمل الجميع. طبعًا الرئيس الجميل على بيّنةٍ تامة من صعوبة أن يكون هو الرئيس التوافقي ولهذا السبب لم يعلن ترشيحه سابقًا ولا حتى هذه اللحظة رسميًا”. وما الذي قد يبدّل نظرته الى نفسه إذاً ويجعله مقتنعًا بطينته التوافقيّة؟ تتلقف المصادر: “العملية غير مرتبطة بحادثٍ أو حدث بل بجملة معطيات داخلية وإقليمية لأن المشهد متداخل ولا يمكن وضع رزنامة أو مهلة، بل يجب المتابعة وخريطة الطريق التي ينتهجها الجميل تقوم على تحديد أولوية أن يكون هناك رئيسٌ للجمهورية بغضّ النظر عن هويّته مع أفعل تفضيل تصبّ في خانة الرئيس الجميل، ولكن بين أن يكون هناك فراغ وبين ألا يكون هو الرئيس طبعًا يفضّل أن يكون هناك رئيس أيًا يكن”.

بلا استئذان

وما إذا كان حزب الكتائب بدأ يلملم أصداء المبادرة التي طرحها الرئيس الجميل أخيرًا تقول المصادر: “المبادرة اتُخذت بلا استئذان أيٍّ من المرجعيات أو بكركي أو الأقطاب المسيحيين. استأذنّا الأوضاع الخطيرة فقط والتي تستدعي رمي حجر في المياه الراكدة فكانت المبادرة بحوار وطني شامل يمهّد للقاء القادة الموارنة”.

قد تكون الكواليس الإقليمية والدولية دعّامة ملموسة لكلام عون الإقصائي خصوصًا أن الجميل ليس اسمًا مطروحًا بقوّة في تلك الكواليس. وفي هذا المضمار تشدد المصادر على أن “براغماتيتنا المعهودة تحتّم علينا أن نتعاطى مع هذه المسألة بواقعية. فالرئيس الجميل اسمٌ معروفٌ بحكم أنه رئيسٌ سابق ورئيس حزب ووجهٌ سياسي من وجوه لبنان الأساسيّة، ولكن كل ذلك لا يمنحنا ثقة القول إن اسمه متداول اليوم في عواصم القرار كمرشّح أساسي لرئاسة الجمهورية. أعتقد أننا لم نبلغ هذه المرحلة بعد، مع تشديدنا والجميل نفسه على جوهرية لبننة الاستحقاق”.

الأكيد... والبعيد

يكذب قائلٌ إن عين الكتائبيين تتجه الى غير بعبدا هذه الأيام. فالعنفوان الرئاسي الذي لم يفارق الجميل يومًا والذي ما زال يحمل “فخامته” اسميًا ويذكّره به كلّ منادٍ من الأحبّة كما من ماسحي الجوخ في غير مناسبة يدفعه لا شعوريًا الى بعبدا... بعبدا الماضي الأكيد والمستقبل البعيد.